رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام لعظيم الفرس لهدايتهم للإسلام ولكن الله أهدي بها اليمن للإسلام
رسالة النبي عليه الصلاة والسلام إلى كسرى
أرسل الرسول رسالة إلى كسرى ملك الفرس، وهي الدولة الثانية التي تقتسم العالم مع الدولة الرومانية. وقد رأينا موقف هرقل وميله في البداية إلى الإسلام، ثم حربًا ومقاومة، ولكن كسرى من البداية كان واضحًا، فمن البداية ظهر عداؤه للإسلام، ومن أول لحظة قرأ فيها الخطاب وهو ينوي تدمير هذا الدين الجديد وحرب الرسول ؛ فمن أول كلمة في الخطاب الذي بدأ بالبسملة، وبعدها من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، ثم بعد ذلك دعوته إلى الدخول في الإسلام، مع تغيير في بعض الألفاظ لتتناسب مع الديانة المجوسية التي هم عليها، قال :
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً؛ لأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ"[1].
إنها كلمات قوية! غضب كسرى وتعامل مع الرسالة بسطحية بالغة، ولم يلتفت إلى المعاني التي في داخل الخطاب، فأمسك الخطاب ومزَّقه، وقال في غطرسة: عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي.
وسبَّ الرسول ، وهذه الكلمات عندما وصلت لرسول الله ، قال : "مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ"[2].
وقد كان ذلك في غصون سنوات قليلة من هذه الأحداث، فقد مزَّق الله عزَّ وجلَّ مُلك كسرى تمامًا، وامتلك المسلمون كل الأراضي الفارسية، وسقطت الإمبراطورية الفارسية التي كانت تسيطر على مساحات هائلة من الأرض؛ وهذه هي النبوة في مواجهة الغطرسة المجوسيَّة الكافرة. ولكن كسرى فارس أَبْرَوِيز لم يكتفِ بهذه الكلمات وتقطيع الخطاب، بل حاول أن يعتقل رسول الله حتى يعاقبه.
كسرى يأمر باذان باعتقال الرسول
أرسل ملك الفرس رسالة إلى عامله على بلاد اليمن[3]، وكان اسمه باذان وكان فارسيًّا، وطلب منه أن يبعث رجلين من رجاله ليأتي برسول الله إلى المدائن عاصمة فارس. ونحن نرى مدى النظرة الدونية التي ينظر بها الفرس إلى العرب، فيبعث برجلين فقط، ليأتي بزعيم المدينة المنورة، وأنه إن رفض فسيُقتل، وسيُهلِك كسرى قومه، ويخرب بلاده. وذهب رسولا باذان إلى رسول الله ، وأبلغوه بما قال كسرى، وطلب الرسول منهما في أدب أن ينتظرا إلى اليوم التالي وسوف يردُّ عليهما، وفي هذه الليلة التي جاء فيها رسولا عامل كسرى، أتى الوحي لرسول الله وأخبره بنبأ عجيب أن هذا الزعيم الفارسي المتغطرس أبرويز قُتِل في نفس الليلة، وقتله ابنه شيرويه بن أبرويز، وكان هذا في ليلة الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة سنة 7هـ، ولما جاء اليوم الثاني بعث الرسول إلى الرسولين، وقال لهم: "إِنَّ رَبِّي قَتَلَ رَبَّكُمُ اللَّيْلَةَ"[4].
ففزع الرسولان؛ لأن المدائن على بُعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة، وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب عنك هذا، ونخبر الملك باذان؟
فقال الرسول في ثقة: "نَعَمْ أَخْبِرَاهُ ذَاكَ عَنِّي".
وقال لهما في يقين: "وَقُولاَ لَهُ أَيْضًا: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى الْخُفِّ وَالْحَافِرِ. وَقُولاَ لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكِ".
وعاملهم الرسول معاملة الملك الكريم، وأعطاهم بعض الهدايا، وعادوا مرة أخرى إلى اليمن. وصل الرسولان إلى باذان ملك اليمن الفارسي، وأبلغاه بكلام الرسول ، وكان باذان هذا رجلاً عاقلاً، فقد سمع الكلمات فقال: "والله ما هذا بكلام مَلِك، وإني لأرى الرجل نبيًّا كما يقول، ولا يكونَنَّ ما قال إلا أن يكون رسولاً"؛ لأن المسافة بين المدائن والمدينة المنورة مئات الكيلو مترات في ذلك الزمن.
باذان حاكم اليمن يدخل في نور الإسلام
وجاء خطاب من شيرويه الزعيم الجديد في بلاد فارس شيرويه بن أبرويز إلى باذان عامله على اليمن، يقول فيه: إنه قد قتل أباه أبرويز؛ لأن أبرويز قد قتل الكثير من أشراف فارس، وكاد يُودِي بفارس إلى الهلكة. ولما وصل هذا الخطاب إلى باذان حدد الليلة التي قتل فيها أبرويز، فوجد أنها نفس الليلة التي حددها الرسول ، فأيقن أن هذا رسول من عند الله ، وأن الذي أخبره بذلك وحي من عند الله ؛ لأن المسافات بين المدينة والمدائن هائلة وبعيدة، ومستحيل على أهل هذا الزمن بأيِّ صورة من الصور أن يعرفوا الأحداث التي تحدث في كل بلد، ولا يتم هذا إلا بمعجزة خارقة.
وهنا أخذ باذان قرار الإسلام، وسبحان الله الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم! فقد أسلم باذان وحسن إسلامه، وأسلم أبناؤه، وأسلم كل الفرس تقريبًا في اليمن، وأسلم الرسولان اللذان بعثهما باذان إلى رسول الله ، ثم أسلم بعد ذلك كثير من أهل اليمن، وكل هذه الأحداث تحقق لنا قول الله : {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
لأن الرسول أرسل رسالة إلى كسرى فارس يبغي إسلام شعب فارس، وفارس تقع على بُعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة، ولكن الله يريد أن يُسلِم بهذه الرسالة شعب اليمن البعيد جدًّا عن منطقة فارس. وهذا يلفت نظرنا إلى شيء مهم جدًّا، وهو أن جهد الداعية لا يضيع، فيبقى جهد الداعية وينتشر، ولكن ليس بالضرورة أن ينتشر في الاتجاه الذي أراده الداعية؛ لأن الله يسيِّر الكون بنظام بديع وتنسيق محكم وحكمة بالغة، فالقلوب بين أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء، فالمسلم عليه الدعوة، والله i يفتح القلوب. وأعطى الرسول ولاية اليمن إلى باذان ، وكان إسلام اليمن إضافة كبيرة جدًّا لقوة المسلمين، ولكن كسرى فارس الجديد شيرويه بن أبرويز مع أنه توقَّف عن سبِّ رسول الله ، وتوقف عن التفكير في عقاب رسول الله كما يريد أبوه، ولكنه لم يفكر في الإسلام أصلاً؛ وبذلك تجمدت العَلاقات تقريبًا بين الدولة الإسلامية والدولة الفارسية إلى أن تحركت بعد ذلك بعدة سنوات في عهد الصِّدِّيق ، عندما بدأت حركة الفتوح الإسلامية.
رسالة الرسول إلى ملك الحبشة والمقوقس وملك البحرين
كانت هناك ردود أفعال أخرى كثيرة، وأفضل هذه الردود جاءت من النجاشي ملك الحبشة، ومن المنذر بن ساوَى ملك البحرين وقد أسلما دون تردد، أما النجاشي ملك الحبشة فقد أخفى إسلامه؛ لأن وضع الدولة النصرانية كان صعبًا، لأنه لو أعلن إسلامه، فإن الشعب سيقتلعه اقتلاعًا من كرسيه، وعندما ساند المسلمين قبل ذلك كاد أن يُقتلع النجاشي من كرسيه؛ فلذلك أخفى إسلامه، وآثر أن يساعد الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة المنورة، وهو يعلن النصرانية في الظاهر ويبطن الإسلام. ولكن المنذر بن ساوَى -رحمه الله- أعلن إسلامه، وأسلم شعبه وكانوا يدينون بعبادة الأصنام، ولكن يبدو أن المنذر بن ساوى -رحمه الله- كان قويًّا ممكَّنًا في قبيلته، وكان محبوبًا في شعبه، وكان الناس تبعًا لقائدهم كعادة العرب في ذلك الوقت؛ فزعيم القبيلة أخذ قرار الإسلام فأسلمت قبيلته وأسلم شعبه، ولكن الوضع في بلاد الحبشة يختلف فهو بلد نظاميّ كبير، وله تاريخ طويل، فكان من الصعب على النجاشي أن يغيِّر أفكار الناس كلها في لحظة واحدة، فكان هذا الوضع بالنسبة لملك الحبشة وملك البحرين، وقد كان هذا أفضل الردود.
ويأتي ردُّ المقوقس ملك مصر من أفضل الردود أيضًا، فقد أحسن استقبال الوفد الإسلامي، وأكرمهم بالهدايا إلا أنه لم يُسلِم. والحقيقة أننا نتعجب من عدم إسلامه؛ لأن المقوقس ذكر في رده لحاطب بن أبي بلتعة، أنه كان يعلم أن نبيًّا سيظهر في هذا الزمان، ولكنه كان يحسب أن هذا النبي سيظهر في الشام، أي كان عنده تهيئة نفسية لظهور النبي ، ومع ذلك لم يسلم، بل إنه لم يفكر أصلاً في التأكد من كونه نبيًّا أم لا، مع أننا نشعر أن المقوقس كان يعرف أنه نبي فعلاً، وإلا ما أكرم سفارته وحمَّلها بالهدايا، وهو ما كان ليفعل ذلك الأمر مع كذَّاب يدَّعِي النبوة، وخاصةً أن الرسول في ذلك الوقت لم تكن له قوة كبيرة أو بأس، ولم يكن يحكم دولة ضخمة يخشاها المقوقس، ويحتاج إلى مهادنته، بل على العكس كانت قوة مصر المادية أضعاف قوة المدينة المنورة في ذلك الوقت، ولكن على كل حال أكرم المقوقس وفد رسول الله ، وترك أثرًا إيجابيًّا للدولة الإسلامية في كل مكان، وأكَّد على شرعيتها في النظام الدولي الجديد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فهذا كان ردّ المقوقس، فقد ردَّ بأدب، وحمّل حاطب بن أبي بلتعة بالهدايا، ولكنه لم يسلم.
يتبع > راغب السرجاني