القدس بلاد الأديان والملاحم (2)
وصل جورج لتل أبيب صباح الخميس في الساعة الثامنة والنصف صباحًا.. كان بنيامين في استقباله، فرأى في عينيه لمعة تدلّ على الفطنة والدهاء..
أهلًا.. أهلًا بك في البلاد المقدّسة أورشليم. مرحبًا، كم أنا سعيد بوصولي لهذه المدينة المقدسة. أخبرني كاخ بأن رحلتك مختصرة، أربعة أيام فقط. نعم، لا أحبذ السفر المتواصل، وقد كنت قبل مجيئي إلى هنا في الهند، ولكن كاخ أصرّ عليّ وشرفني بزيارة البلدة المقدسة. لقد رتبت كل شيء، وسيوقَّع العقد خلال يومين؛ فلا تهتم كثيرًا للموضوع، وحضورك فقط لتأكيد أن العقد مرّ بطريقة طبيعية. هذا جيد. هل نذهب للفندق أم للشركة؟ للفندق؛ لأضع حقيبتي، ثم نتجه للشركة مباشرة. جيد، فبعد غدٍ السبت وليفي لا تعمل يوم السبت، وربما تحتاج أن تجتمع معها اليوم وغدًا، ليفي امرأة متدينة جدًّا وتقنية بارعة، ويهمها أن يكون برنامج الحماية أقوى من قدرة الإرهابيين على اختراقه. برنامج الحماية الذي قدمناه لكم قوي جدًّا، فلا تقلقوا من ذلك. ركز مع ليفي على ذلك، وعلى حرصك على حماية أمن إسرائيل، فهذا ما يهمها جدًّا، بل ستفاجأ أن الحوار معها يأخذ أبعاد عقَدِية وفلسفية غير التقنية. عقدية وفلسفية؟! نعم، وهذا جزء من طبيعتها السيئة، عمومًا لو واجهتك متاعب في التعامل معها أخبرني، ثم ابتسم وقال: فهي رغم عنادها لا ترد لي طلبًا البتة. جيد.
وصلا إلى الفندق، ووضع جورج حقائبه، ونزل مباشرة إلى بنيامين واتجها للشركة.. لم يكن مبنى الشركة كبيرًا ولافتًا، بل كان مبنى متوسطًا، مزدحما بالموظفين، أما الحراسة؛ فكانت عند مدخل الحي قوية جدًّا، وكذلك الحراسة على مبنى الشركة. مَضيا إلى مكتب بنيامين، الذي اتصل فور وصلوهما على ليفي، وطلب منها الحضور..
ستأتي المشكلة الآن. المشكلة! لماذا؟ تعصبها الديني يجعلها لا تفهم الحياة بطريقة مناسبة، كما أنها تعشق الجدال وتحبه ولا تتضايق منه، إلا أنها في الآخر تلين بالضغط.
بعد دقائق معدودة، أقبلت فتاة جميلة جدًّا بلباس محتشم، لكنه لا يخفي جمالها الأخاذ، فبادر بنيامين إلى تقديمها لجورج معرّفًا:
ليفي مدير القسم التقني في شركتنا.. ثم أشار إلى جورج: وهذا جورج مسئول القسم البرمجي في شركة الإلكترونيات المتقدمة من بريطانيا. أهلا وسهلًا بك، شكرًا لحضورك فلدي استفسارات تقنية وفنية كثيرة. أسعد بإجابتها. بإمكانكما أن تعقدا اجتماعًا في غرفة الاجتماعات إن أردتما. حسنا، تفضل سيد جورج.
غادر جورج وليفي إلى غرفة الاجتماعات، كانت غرفة صغيرة لكنّها مرتّبة وفاخرة..
تفضل. شكرًا لكِ، يبدو أنكِ لست مرتاحة لبرنامج الحماية الذي قدمته شركتنا؟ لا، ليس هذا المقصود، وإنما أريد الاطمئنان، فأمننا كيهود وحمايتنا أهم قضية تشغلني. البرنامج من أقوى برامج الحماية، لكني أشعر أن لديكم فوبيا تجعلكم تتشددون في الأمن والحماية. ماذا تقصد؟ حماية الحيّ وحماية المبنى لم أرَ مثلها في حياتي! نحن شعب مضطهد طوال التاريخ، وأعتقد أن مهمتي حماية هذا الشعب قدر استطاعتي. جيد، وستكون مهمتي مساعدتكم التقنية في ذلك. تساعدنا! لماذا تساعدنا؟ لم أفهم! أساعدكم ببرنامج الحماية المتميز الذي سنوقع العقد عليه. أعتذر لك، لكني اعتدت أن كل الناس ضدنا نحن اليهود. أنا بريطاني مسيحي بروتستانتي، أوليس الذي أعطاكم هذه البلاد وهذا الوطن بلفور البريطاني المسيحي البروتستانتي؟ هذه بلادنا وأرضنا، ولم يعطنا إياها أحد، ويجب أن نحميها بأنفسنا. يبدو أنكِ تحبين النقاش كثيرًا، فهل تحبين الصراحة؟ أحب النقاش وأعشقه وأحب الصراحة وأريدها. إذا كنتِ تحبين الصراحة كما تقولين، فمن أين أنت؟ يبدو أنك أوروبية؟! أنا من إسرائيل. أبوك وأمك هل ولدا في إسرائيل؟ أبواي نمساويان جاءا عام 1970م، وولدت أنا هنا في إسرائيل، ولذا فأنا إسرائيلية ولو كنت أملك جنسية نمساوية. أنتِ إذن نمساوية تحمين إسرائيل، وأنا بريطاني أقدم لك برنامج حماية. لكني يهودية وأنت بروتستانتي! هل أبوك يهودي؟ لا، لقد كان مسيحيًّا ملحدًا، إلا أن اليهودية تأتي من الأم وليس من الأب.
بصراحة أنا جئت للقدس لأمرين: الأول توقيع العقد، والثاني أريد أن أتعرف على اليهودية؛ فقد أصبح يهوديًا، فهل لديك مانع في أن نتحدث في الدين بعمق أكثر؟ بكل سرور، إلا أنه لا يمكن أن تكون يهوديًّا ما لم تكن أمك يهودية. كيف؟ نحن شعب مختار، مختار من قبل الرب في أعراقه وعقائده. أنتم لا تبشرون ولا تدْعون لدينكم إذن؟ أبدًا، وإنما ندعوا غيرنا ليخدم هذا الشعب المختار. أي يكون خادمًا عندكم فقط!! لا خدمة دون مقابل. مقابل توقيعكم على عقد الحماية، تعطوننا المبلغ المتفق عليه، هذه ليست خدمة! هذا بيع وشراء. ولو لم يكن مدير الشركة لديكم يهوديًّا لما وقع اختيار شركتكم لتقدم لنا الحماية. لكن كاخ علماني! يظلّ يهوديًّا من الشعب المختار.. يبدو أنك متديّن!
في هذه اللحظة طرق العامل الباب، فسألت ليفي جورج عمّا يطلبه للضيافة..
ماء وقهوة.. ما رأيكِ أن نبدأ الموضوع من بدايته؟ تفضل، تبدو مهتمًا بالديانة الأم لكل الديانات السماوية. هل تعنين بأم الديانات السماوية أن اليهودية وموسى عليه السلام مما يؤمن به اليهود والمسيحيون والمسلمون. نعم، وكل من بعده اختلف فيه، فاليهود لا يؤمنون بعيسى والنصارى لا يؤمنون بمحمد. ومن الممكن القول أن المسلمين يؤمنون بالجميع، واليهود لا يؤمنون بأحد عدا نبيهم.. دعيني من ذلك، أريد أن أتعرف منك على أقدم الأديان السماوية الموجودة بوضوح، فهل من الممكن أن تساعديني؟ تبدو عالم أديان لا عالم برمجيات! تفضل.
أضمر جورج في داخله مواجهتها واستدراجها؛ لتكشف له كل ما تعرفه عن اليهوديّة، فهو لا يريد منها معلومات عامّة منمّقة، هو يريد الحقيقة..
ما عقيدة اليهود في الرب؟ بماذا يصفونه وبماذا يعرفونه؟ لم أفهم ما تريد؟ لكن الرب هو الخالق الرازق. لقد قرأت أشياءً كثيرة عن صفات الإله عندكم أثارت إشكالات لدي؛ فمما قرأت في العهد القديم: “وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا”، وقرأت في سفر الخروج: «فسمع أنينهم فتذكر الله ميثاقه مع آدم وإسحاق ويعقوب»، وقرأت في سفر العدد قول الله: “فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ماله ولا تعف عنهم، بل اقتل كل رجل وامرأة وطفل ورضيع والبقر والغنم والجمال والحمير”، وغير ذلك كثير فأنا أتساءل: هل الرب يندم وينسى ويتذكر ويأمر بالقتل وعدم العفو؟ أي إله هذا؟! تبدو قارئًا جيدًا، لكنك قارئ انتقائي، ما ذكرته صحيح وغيره كثير، لكن هل هو خاص باليهودية؟ لديكم أنتم أضعافه. هههه، صدقت فلدينا مثله كثير لكن لأني أفكر أن أتحول إلى اليهودية، ما رأيك أن نكمل الحديث عن عقائد اليهودية مستقبلًا، كنت أود أن ننهي اليوم وغدًا موضوع الاتفاق؛ فبعد غد السبت وأنتم لا تعملون فيه. صحيح؛ فيوم السبت يوم الراحة والعبادة، بل جاء في الوصايا العشر الأمر بحفظه، وهو اليوم الذي فرغ فيه الرب من صنع السماوات والأرض فاستراح يوم السبت. استراح؟! نعم استراح، يبدو أن لديك حساسية من بعض الألفاظ في حق الرب، هذه مشكلتك. ربما، المهم أن ننهي نقاشنا حول العقد خلال اليومين، وأنا بدأت أشعر بالتعب اليوم فأنا واصل من المطار إلى الشركة. يمكنك أن تذهب وترتاح الآن، ونكمل مساءً لو أردت. هل يضايقك أن نكمل في الفندق بعد الساعة الرابعة والنصف؟ أبدًا.. سآتيك في الفندق الساعة الرابعة والنصف. نتغدى معًا إذن، وربما تكونين أكثر هدوءًا، وأقل حدة في التعامل معي. لم أفهم ما تعني؟! أنت الهجومي اليوم، وأعتذر إن كنت أخطأت معك. أنا الذي أعتذر إن كنت هجوميًّا، فمن في جمالك لا ينبغي أن يهاجَم أو يضايَق. هذا من لطفك، لكن هجومك السابق أحب إلي من غزلك الآن.. ثم ابتسمت وقالت: أنا أعيش حياتي من أجل الرب فقط. قبل أن أنصرف أود أن أسلم على بنيامين. تفضل.
مضيا معًا إلى مكتب بنيامين، فبادرهما بالسؤال عن اجتماعهما..
كانت النقاشات جيده ومتشعبة. هل أستأذنكم لأعود لعملي؟ تفضلي يا ليفي، ولكن جورج ضيفنا ولا بد من إكرامه. حسنًا، إلى اللقاء. اتفقنا على أن أذهب للفندق لأرتاح قليلًا، وستأتي ليفي للفندق لإكمال النقاش.. عرفت لماذا نحن بحاجة إلى يومين على الأقل للتوقيع على العقد، فهي تحب النقاش والتفرع فيه. فكرة إكمال النقاش في الفندق فكرة جيدة، فهي تزيل شيئًا من الرسمية. نعم، لكن ليفي تبدو صعبة! على صعوبتها هي طيبة وجميلة، وسأخبرها أن تغير من عنادها وتزمتها قبل قدومها عليك اليوم. لا بأس، استأذنك فأنا متعب قليلًا. تفضل سيوصلك السائق للفندق.