إمامة الشيعة وأثرها على القرآن الكريم إعتقاداً وقرءةً وتفسيراً
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ] الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [، والصلاة والسلام على رسوله الأمين على وحيه، المصدِّقُ لما قَبْله من الرسل والكتب السماوية، وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فإن لكل نبي منهج ومعجزة، معجزة تتحدى الإتيان بمثلها، وتثبت نبوته وتؤيد رسالته ليلزم الناس بها.
لقد إشترك جميع الأنبياء في أصول دعوتهم واختلفت شرائعهم في الحلال والحرام. فالمحرمات في توراة موسى غيرها في الإنجيل وفي القرآن. وفي القرآن غيرها في الإنجيل والتوراة.
إختلفت معجزات الأنبياء عن بعضها بإختلاف الزمان والبيئات والثقافات والعلوم والعادات للأمم السابقة. فمثلا كانت معجزة موسى العصا التي كانت تنقلب إلى حية تسعى، لأن السحر كان منتشرا في مجتمعهم. فكانت معجزته العصا واليد، ومنهجه التوراة. وكانت معجزة عيسى إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، لأن أهل ذلك الزمان كانوا بارعين في الطب. وكان منهجه الإنجيل.
كانت معجزات الأنبياء قبل نبينا محمد معجزات آنية ووقتية تنتهي بوفاة النبي. فمن رأى المعجزة آمن، ومن لم يرها ربما لم يؤمن. وحتى إذا آمن تبعا للآباء والأجداد، ولكن بمرور الزمن ينتهي إيمان الناس بالمعجزة، لأنها بلغتهم عن طريق النقل دون المعاينة، فيهجروا المنهج، وينحرفوا عن التوحيد إلى الشرك، ومن الأخلاق الفاضلة إلى الرذيلة. عند ذاك يرسل الله تعالى لهم نبيا آخر إما بشريعة النبي الذي تقدََمه، أو بمنهج وشريعة جديدة، وبمعجزة تثبت نبوته.
ولما أراد الله تعالى أن يختتم الرسالات والأنبياء بعد أن ـ بلغ المجتمع البشري في عصر البعثة المحمدية في التكامل الفكري والرشد العقلي حداً أصبح معه صالحاً لأن يحافظ على المواريث الأنبياء العلمية والدينية ويصونها من خطر الحوادث، وأن يكون نفسه مبلِّغاً لتلك القيم والمفاهيم المقدسة، فقد وصل في هذا المجال إلى درجة الاكتفاء الذاتي، ولهذا لم تبقَ حاجة بعد هذا إلى إرسال الرسل([1]) ـ جعل الله تعالى منهجه معجزة، ومعجزته منهجا، فكان هذا القرآن الكريم الذي إندمج فيه المنهج بالمعجزة، بحيث يبقى يتحدى الناس جيلا بعد جيل على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور أو بسورة من مثله إلى قيام الساعة.
ولما علم الله تعالى أن البشر غير قادرين على حفظ مناهج الأنبياء قبل نبينا محمد ، فتكفل الله تعالى بحفظ المنهج لئلا تطاله الأيدي بالعبث والتحريف، لأنه ليس بعد نبينا نبي يصحح ولا بعد منهجه منهج. فمنهجه وشريعته خاتمة الشرائع السماوية. فقال تعالى: ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ [الحجر/9].
ومن الطبيعي عندما يتولى الله تعالى حفظ كتابه، أن يهيأ لذلك أسبابا ومسببات، لأننا نعيش في عالم الأسباب، فكان صحابة نبيه هم تلك الأسباب الذين بهم حفظ كتابه، بعد أن تلقوها من نبيهم الأكرم حفظا في الصدور وكتابة فيما توفرت لهم من أدوات الكتابة، ثم تناقلت الأمة هذا القرآن المجموع بين الدفتين جيلا بعد جيل، إلى يومنا هذا، بحيث لا تستطيع البشرية الآن أن تغير حركة حرف واحد منه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. فهو القرآن نفسه الذي يتلوه أهل المشرق والمغرب، ليس فيه إختلاف لا في حرف، ولا في كلمة. وكلما تقدم الزمن، وتطور العلم فاستجدت وسائل جديدة لحفظ هذا القرآن تحقيقا للوعد الإلهي: ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ [الحجر/9].
أهمية القرآن في حياة المسلمين
لقد كانت مناهج الأنبياء قبل منهج القرآن عبارة عن تعاليم عبادية وأخلاقية تنظم حياة الفرد وعلاقته بربه وخالقه، وتقيم سلوك الفرد في مجتمعه. أما القرآن فلم يكن كتاب مواعظ وتراتيل، كسابقيه من الكتب المنزلة وإنما جمعت فيه كل مقوّمات الإعجاز العلمي والحضاري، ليدفع جاحديه، ويؤيّد تابعيه. فقد جاء منهجا متكاملا يعالج جميع قضايا المجتمع البشري، إما إجمالا أو تفصيلا.
فهو منهج ودستور ودولة، وسياسة وقانون، وشريعة وأخلاق، ونظام وسلوك، وإقتصاد وثقافة، وضعه خالق البشر لتسير عليه البشرية، إذا أرادوا أن تتكامل حياتهم في هذه الدنيا سعادة، وفي الآخرة نعيما سرمدا.
هذا القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، من إتبعه لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا، وشفاء ورحمة للمؤمنين، ] يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ [المائدة/16].
هذا القرآن الذي قال عنه نبينا محمد :( حَبْلُ اللَّهِ مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلاَلَةٍ )([2]).
ولقد وصف سيدنا علي t هذا القرآن أبلغ وصف، فقال: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ وَالْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ وَلَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنًى فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلَالُ فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ وَلَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ )([3]).
إنه كتاب رب العالمين الذي قال عنه الجن : ] إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [[الجن/1، 2]، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ليجعل من الإنسان الذي كرمه الله تعالى حرا كريما لا ذل ولا خضوع إلا لله تعالى.
يهدي إلى الرشد في العقائد، ويدعو الإنسان إلى الإيمان بالله وحده والكفر بالطاغوت أياً كان شكله وإسمه. جاء ليقول للمنحرفين من البشرية الذين يقولون إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة، وإن عزيرا إبن الله، والذين يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه. كفى دجلا إنما الله إله واحد فله أسلموا.
جاء ليقول للناس إن الإنحراف في العقائد يستتبعه إنحراف في الحياة كلها: ( فالمسألة ليست مسألة انحراف عقيدي فحسب، إنما هي كذلك فساد الحياة كلها بناء على هذا الانحراف! واليهود والنصارى بادعائهم أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، كانوا يقولون - تبعا لهذا - إن اللّه لن يعذبهم بذنوبهم! وإنهم لن يدخلوا النار - إذا دخلوا - إلا أياما معدودات. ومعنى هذا أن عدل اللّه لا يجري مجراه! وأنه سبحانه - يحابي فريقا من عباده، فيدعهم يفسدون في الأرض ثم لا يعذبهم عذاب المفسدين الآخرين! فأي فساد في الحياة يمكن أن ينشأ عن مثل هذا التصور؟ وأي اضطراب في الحياة يمكن أن ينشئه مثل هذا الانحراف؟
وهنا يضرب الإسلام ضربته الحاسمة على هذا الفساد في التصور، وكل ما يمكن أن ينشئه من الفساد في الحياة، ويقرر عدل اللّه الذي لا يحابي، كما يقرر بطلان ذلك الادعاء: «قُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» .. بذلك يقرر الحقيقة الحاسمة في عقيدة الإيمان. يقرر بطلان ادعاء البنوة فهم بشر ممن خلق. ويقرر عدل اللّه وقيام المغفرة والعذاب عنده على أصلها الواحد. على مشيئته التي تقرر الغفران بأسبابه وتقرر العذاب بأسبابه. لا بسبب بنوة أو صلة شخصية! ثم يكرر أن اللّه هو المالك لكل شيء، وأن مصير كل شيء إليه: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» .. والمالك غير المملوك. تتفرد ذاته - سبحانه - وتتفرد مشيئته، ويصير إليه الجميع )([4]).
ولك أن تتصور لولا وجود هذا القرآن بيننا اليوم لكان حالنا لا يختلف عن حال الأمم التي تعبد الأوثان، أو تعبد المال أو تعبد الحجر والشجر والبقر. فهم في حضيض من الأخلاق، ودرك من الشقاء، وضنك من الحياة، رغم ما تتوفر لهم من وسائل الترفيه، تشبه حياتهم حياة البهائم التي تأكل لتعيش، يسود فيهم قانون الغاب والبقاء للأقوى والأغنى.