الإنصاف عند المحدثين في جرح الرواة
الإنصاف عند المحدثين في جرح الرواة
د. عبد الرحمن بن أبراهيم الخميسي
عدم قبول الجرح إذا كان صادراً عن جهل أو هوى أو ضعف أو تعب أو اختلاف العقيدة
أو كان مبهماً ونحو ذلك
وهذا الأمر عند المحدثين شبه مجمع عليه ويدل دلالة بينة على ورعهم وصيانتهم وإنصافهم، وهذا مقتضى العقل والعدل الذي قامت عليه السموات والأرض لأن بواعثه المذكورة ليست علمية ولا شرعية فلأجل ذلك اقتضى العقل والشرع رده وعدم قبوله ، وممن نص على ذلك من الأئمة الخطيب البغدادي، وابن الصلاح، وابن دقيق العيد، والذهبي، والعراقي، وابن حجر، وغيرهم ، قال الخطيب في باب القول في الجرح هل يحتاج إلى كشف أم لا؟ نقلاً عن القاضي أبي بكر محمد بن الطيب ابن الباقلاني (ت403هـ ) قال: قال الجمهور من أهل العلم: إذا جرّح من لا يعرف يجب الكشف عن ذلك، ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن قال الخطيب : والذي يقوي عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالماً ، والدليل عليه نفس ما دللنا به على أنه لا يجب استفسار العدل عما به صار عنده المزكى عدلاً لأننا متى استفسرنا الجارح لغيره فإنما يجب علينا بسوء الظن ، والاتهام له بالجهل بما يصير به المجروح مجروحاً وذلك ينقض جملة ما بينا عليه أمره من الرضا به والرجوع إليه ، ولا يجب كشف ما به صار مجروحاً وذلك ينقض جملة ما بينا عليه أمره من الرضا به والرجوع إليه ، ولا يجب كشف ما به صار مجروحاً وإن اختلفت آراء الناس فيما به يصير المجروح مجروحاً كما لا يجب كشف ذلك في العقود والحقوق وإن اختلف في كثير منها فالطريق في ذلك واحد ، فأما إذا كان الجارح عامِيّاً وجب لا محالة استفساره([1]).
([1]) انظر : الخطيب البغدادي ( الكفاية في علم الرواية ص 107) المكتبة العلمية .
فكما ترى بين الخطيب ومن قبله القاضي ابن الباقلاني أن الجرح إذا صدر من جاهل وهو العامي ومن لا يعرف الجرح لا يقبل بمجرد صدوره منه حتى يكشف عنه ويعرف حقيقته هل هو جرح بحق أم لا ، ويعرف كذلك موافقته لضوابط الجرح من عدمها، أما إذا صدر من عالم فلا يجب شيء من هذا ووجب قبول جرحه وقال أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح (ت643هـ ): الجرح لا يقبل إلا مفسراً مبين السبب لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحاً وليس بجرح في نفس الأمر فلا بد من بيان سببه لينظر فيه أهو جرح أم لا وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله
انظر : ابن الصلاح ( علوم الحديث ص 69) تحقيق د. نور الدين عتر – المكتبة العلمية 1981م
وقال أحمد بن حجر العسقلاني: ( الجرح مقدم على التعديل وأطلق ذلك جماعة ولكن محلة إن صدر مبيناً من عارف بأسبابه لأنه إن كان غير مفسر لم يقدح فيمن ثبتت عدالته وإن صدر من غير عارف على المختار لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول، وإعمال قول المجرّح أولى من إهماله) ([2]).
وهذا الذي قاله ابن حجر في الجرح هو المعتمد وقد اشترط لقبوله في الراوي المعدل شرطين:
الأول: أن يكون مبيناً أي مفسراً.
والثاني: أن يكون صادراً من شخص عارف بأسبابه فإنه يقبل فيه هذا الجرح المجمل على القول المختار كذلك ، لكون الشخص المجروح شبه مجهول وهذا أولى من إهمال الجرح أو التوقف فيه كما مال إليه ابن الصلاح
رحمه الله. انظر : علوم الحديث ص 98.
وهذه أمثلة من كتب التراجم وغيرها لرد العلماء المعتبرين للجرح الصادر كذلك فمن أمثلة الجرح الصادر عن جهل ما رواه الخطيب عن الشافعي أنه بلغه أن إنساناً جرّح رجلاً فسئل عما جرحه به فقال: رأيته يبول قائماً فقيل له: وما في ذلك ما يوجب جرحه ؟ فقال: لأنه يقع الرشش عليه وعلى ثوبه ثم يصلي، فقيل رأيته يصلي كذلك ؟ فقال : لا قال الخطيب معلقاً على هذه القصة : فهذا ونحوه جرح بالتأويل والجهل ، والعالم لا يجرح بهذا وأمثاله([3]). وقد تلخص لي من مجموع كلامهم في ذلك ثلاثة شروط لقبول روايته :
الأول: ألا تكون بدعته مكفرة ، وقد ادعى النووي الاتفاق على عدم الاحتجاج بمن كُفِّر ببدعته ونازعه السيوطي في ذلك فقال: دعوى الاتفاق ممنوعة فقد قيل أنه يقبل مطلقاً وقيل يقبل إن اعتقد حرمة الكذب وصححه صاحب المحصول([4]).
وقد حرر ابن حجر القول في هذه المسألة فبين وجه الحق فيها وضابط البدعة المكفرة فقال : والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعته لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة وقد تبالغ فتكفر مخالفيها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمراً متواتراً من الشرع معلوماً من الدين بالضرورة وكذا من اعتقد عكسه فأمّا من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله([5]).
الثاني : ألا يكون داعية إلى بدعته ، وبه قال أكثر العلماء ، وادعى ابن حبان الاتفاق عليه([6]) ورد بأن في الصحيحين رواةً من الدعاة قد احتج بهم الشيخان كعمران بن حطان الخارجي احتج به البخاري، وعبد الحميد بن
عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء احتج به البخاري ومسلم([7]).
وأجيب بأن البخاري لم يخرج لعمران بن حطان إلا حديثاً واحداً في المتابعات وقد أخرجه من طرق أخرى عن عمر وغيره ، وكذا لم يخرج
لعبد الحميد الحماني إلا حديثاً واحداً قد شاركه غيره في روايته فلم يخرج
له إلا ماله أصل([8]) وأما مسلم فلم يرو إلا عن عبد الحميد الحماني ، وقد أخرج له في المقدمة دون الأصول ، والمقدمة ليست على شرطه([9]). الثالث : ألا يروي ما يؤيد بدعته :وهذا الشرط قد سبق إليه أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ووافقه عليه الأئمة من بعده حيث قال عن أهل البدع : ومنهم زائغ عن الحق صدوق اللهجة قد جرى في الناس حديثه إذ كان مخذولاً في بدعته مأموناً في روايته ، فهؤلاء عندي ليس فيهم حيلة إلا أن يؤخذ من حديثهم ما يعرف إذا لم يقوّ به بدعته فيتهم عند ذلك([10]). فقوله: (إذا لم يقوّ به بدعته) هو موضع الشاهد من كلامه ومعناه هو ما صدرت به هذه الفقرة أي أنه لم يرو ما يؤيد بدعته .
وقال ابن حجر: والاكثر على قبول غير الداعية إلا إن روى ما يقوي بدعته فيرد على المذهب المختار وبه صرح الحافظ الجوزجاني في كتابه: "معرفة الرجال" ثم ذكر كلامه السابق ثم قال : وما قاله متجه لأن العلة التي لها رد حديث الداعية وأرده فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولو لم يكن داعية([11]).
وقال ابن دقيق العيد : هاهنا نظر في أمر وهو : هل تقبل رواية المبتدع فيما يؤيد به مذهبه أم لا؟ هذا محل نظر فمن يرى رد الشهادة بالتهمة فيجئ على مذهبه ألا يقبل ذلك([12]).
وبهذا التفصيل يتضح لنا ما أجمل من كلام ابن حجر في الشرط الأول من أنه لا مانع من قبول رواية المبتدع غير المتفق على كفره سواء كان داعية أو غير داعية إذا كان متصفاً بالورع والضبط والتقوى من أن المراد بذلك غير الداعية الذي لم يرو ما يؤيد بدعته حيث رجح هذين الشرطين في مصنفاته كما تقدم وصححهما واختارهما ، ولا أجد بعد هذا أي إشكال في التوفيق بين كلامه السابق واللاحق إلا أن الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله اقتصر في هذه المسألة على كلام ابن حجر السابق ولم يضم إليه كلامه اللاحق وظفر في المسألة نفسها بكلام عام للذهبي التقطه من كتابه: "الميزان" ولم يعرج على ما ذكره من تفصيل في الموقظة وأصدر حكمه على ضوء ذلك بعدم اعتبار الشرطين السابقين وأنهما مع غيرهما من الأقوال كلها نظرية ثم قال : والعبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه والمتتبع لأحوال الرواة يرى كثيراً من
أهل البدع موضعاً للثقة والاطمئنان وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيراً منهم لا يوثق بأي شيء يرويه ـ ثم نقل تقسيم الذهبي للبدعة وأنها على ضربين بدعة صغرى كغلو التشيع أو التشيع بلا غلو ولا تحرق، وبدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه ، وقبوله لحديث أصحاب البدعة الصغرى من غير تفصيل إذا اتصفوا بالدين والورع والصدق وأنه لو رُدَّ حديث هؤلاء لذهبت جملة الآثار النبوية ، وردِّه لحديث أصحاب البدعة الكبرى لعدم وجود رجل صادق أو مأمون بينهم ، وختم هذا النقل بقوله : والذي قاله الذهبي مع ضميمة ما قاله ابن حجر فيما مضى هو التحقيق المنطبق على أصول الرواية([13]).
قلت : أما ابن حجر فقد تقدم النقل عنه باعتباره للشرطين وترجيحه واختياره لهما وهذا يفسر كلامه المجمل أولاً .
وأما الذهبي فقد بين في رسالته الموقظة وهي متأخرة ما أجمله في كتابه: "الميزان" وهو سابق عليها كما صرح به فيها([14]) حيث قال : فمنهم من بدعته غليظة ، ومنهم من بدعته دون ذلك ومنهم الداعي إلى بدعته ، ومنهم الكاف ، وما بين ذلك ، فمتى جمع الغلظ والدعوة تجنب الأخذ عنه ، ومن جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه ، فالغلظ كغلاة الخوارج والجهمية والرافضة ، والخفة كالتشيع والإرجاء([15]).
ومن هنا يتضح أن مراد الذهبي بقبول حديث أصحاب البدعة الصغرى هم غير الدعاة كما توضحه عبارته السابقة: (ومن جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه) أي من كان خفيف البدعة كأن يكون متشيعاً أو مرجئاً ونحو ذلك وكفّ عن الدعوة إلى بدعته وكان مع ذلك ديّناً ورعاً صادقاً أخذ عنه ولم يرد حديثه لأن رد حديث مثل هؤلاء مفسدة بينة تتمثل في ضياع جملة الآثار النبوية ومن لم يكن كذلك رد حديثه ولم يقبل . والله أعلم .