السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه المقدمة على عجل، وتأتي المقدمة التي بعدها فيما يتعلق بالشُّبَه، وهي موضوع كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذه مسألة يكثر تكرارها.
ومنهج السلف الصالح -رضي الله عنهم- فيما يتعلق بالشبه: أنهم ينهون الأمة عن تلقيها وتلقفها والبحث عنها. ولهم في هذا مقالات كثيرة، تجدها في "شرح أصول الاعتقاد" لللالكائي(1)، وفي "الشريعة" للآجري(2)، وفي الكتب التي صُنِّفت في السنة عمومًا، وفي الكتب التي صُنِّفت في ذم الكلام وأهله. فتجد السلف -رحمهم الله- يحذرون الناس من تلقي الشبه، أو التنقيب عنها، أو البحث عنها؛ لأن هذه الشبه إذا دخل فيها مَن لا يحسن، فلا شك أنه يتضرر كما تضرر أناس كثيرون، فهذه الشبه لها منهج في التعامل معها عند السلف الصالح، ومن أبرز وأوضح مناهج السلف الصالح في التعامل مع الشبه:
أولاً: التحذير من التصدي لها من قِبَل أي أحد. فلا يتصدى لها أي أحد، وإنما يتصدى لها أهل العلم الذي لديهم -بعد حفظ الله وتثبيته- الوقاية مما يمنع أن يتأثروا بتلك الشبه.
ثانيًا: التضييق على الشُّبَه، وإبعادها عن عامة الناس. بحيث لا تكون شيئًا متداولاً، وحديثًا في المجالس، وشيئًا يُنشر ويوزع وكأنه شيء من الحق والعلم، وإنما الأصل ألا يُرد عليها إلا بالقدر الذي يكون بمثابة الضرورات، فيُتعامل معها كما يُتعامل مع الضرورات بقدرها، فالضرورة تُقدَّر بقدرها، فلا تُفتَح لعوام الناس حتى لمجرد الرد؛ لأنه إذا كان العامة لا يدرون بشبهة من الشبه، فليس لأحد أن يأتي بينهم ويقول: هناك شبهة قيلت وهذا ردها...
قال السلف: إنك لن ترد على هؤلاء بأعظم من السكوت. وهذا في أي شبهة، وفي الشبه التي لم تنتشر ولا تُعرَف؛ لأن أهل الباطل يسعون لأن يروج باطلهم، ويصل إلى الناس؛ حتى يتأثر بهم مَن يتأثر، وهم يسعون إلى هذا سعيًا حثيثًا.
فقد يأتي بعض الناس -بحسن قصد- ليرد على هذه الشبه فينقلها، فإذا نقلها قد يحسن الرد وقد لا يحسن، ثم قد يحسن هو الرد ولا يفهمه العامي المتلقي الفهم، فتبقى الشبهة دون حل! ولهذا فإن منهج السلف في ملمحه الثاني هو: التضييق على الشبه، وحصرها، والسعي ألا تصل إلى عامة المسلمين.
ولهذا ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه لما قرأ عمر -رضي الله عنه- في صحيفة من التوراة -وعمر لم يأتِ بكتب الفلاسفة ولا المناطقة ولا الدهريين والملاحدة- لكنه -رضي الله عنه- سُرَّ ببعض ما فيها، فربما سُرَّ بنوع من المواعظ، أو نوع من الأخبار، فكأنه -رضي الله عنه- رأى فيها شيئًا من الحسن فأتى بها. ولم يتفطن -رضي الله عنه- أثناء قراءته لها إلى وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، حتى قاله له بعض الصحابة بصريح العبارة: ثكلتك أمك يابن الخطاب، ألا ترى ما بوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟! فرفع عمر -رضي الله عنه- رأسه، فإذا بوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتلوَّن لمجرد قراءة عمر لصحيفة من التوراة! وقال عليه الصلاة والسلام: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي».
ولذا جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَابْنَ الْخَطَّابِ؟!»(3). أي: أمتشكك؟ مع أن هذا على سبيل الزجر، وهذا من الأمور المفروغ منها أن هذا ليس إلا من باب الزجر والتعنيف، فإذا كان هذا يقال من قِبَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قراءة شيء من التوراة، فكيف بعرض شُبَه تتعلق بالله، وباليوم الآخر، وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وبمبادئ الإسلام العظيمة؟!
فلا شك أن الأصل في هذا هو التضييق، وألا يصل إلى الناس، وألا يُترك سبيل يصل من خلاله أهل هذا الباطل إلى الناس. فهذا أمر ينبغي أن يعرف في أمر الشبهات.
الملمح الثالث في الشبه، وهو موضوع الكتاب: إذا وصلت الشبه إلى الناس: فإذا وصلت الشبه إلى الناس فلا بد من الرد؛ لأن المحظور الذي كان يُخَاف -وهو أن يكون الرد سببًا في انتشارها- قد تحقق، فسار لا بد من الرد.
وقد ذكر عثمان بن سعيد الدارمي(4) -رحمه الله تعالى- في "الرد على الجهمية": أنه كان مرة مع شيخه يحيى بن يحيى(5) -رحمه الله- وبعض أهل العلم، يقولالدارمي: فذكرت لهم بعض كلام الجهمية، لأستخرج منهم ردًّا. قال: فأسكتني يحيى، وزجرني المشايخ(6). لمجرد أنه قال قول الجهمية؛ لأنهم يريدون ألا ينتشر، فقد يكون في المجلس مَن لا يصلح أن يسمع من العامة. فما دامت العامة في سلامة من تلك الشبه فالأصل عدم نشرها.
ويقول الدارمي -رحمه الله تعالى- في كتابه السابق: قد كنا زمنًا، وقد كان مشايخنا وسلفنا يمنعون من الرد على هذه الشبه، وابتلينا نحن بالرد عليها(7). ولهذا صنف "الرد على الجهمية"، و"الرد على بشر(8)"، بعد أن شاعت وانتشرت في الناس؛ لأن النهي من الرد عليها هو خوف انتشارها، فلما انتشرت وحصل المحظور أصبح لا بد من الرد عليها، وألا تترك تشيع بين الناس دون رد.
هذا هو المنهج الصحيح، وهذا الذي بنى عليه المصنفون -رحمهم الله تعالى- الكتاب. فإنه رَدَّ على شُبَه واقعة موجودة في الناس، وتأثر بها مَن تأثر؛ فلأجل هذا تصدى -رحمه الله تعالى وغفر له- للرد عليها، فهذا هو الأصل في الشبه.
وبهذه المناسبة نؤكد على كل مسلم أن يحذر غاية الحذر أن يقحم نفسه في الدخول في هذه الشبهات، فإن كثيرًا من الناس اليوم قد خالفوا نهج السلف الصالح -رضي الله عنهم- في التعامل مع الشبه على الوضع الذي ذكرته، فصاروا لا يكترثون بالتنقل بين مواقع الإنترنت -مثلاً- التي فيها مواقع إلحادية بحتة محضة، وهكذا مواقع تنصيرية، ومواقع رافضية، ومواقع تبث الشبه حول منهج السلف الصالح.
وعاقبة مَن دخل في مثل هذه الأمور ممن لم يكن مؤهلاً أنه يتزعزع تزعزعًا شديدًا، وحدث هذا، ورأينا بعض الناس يأتي متزعزعًا، ويسأل عن شبهة، يقول: أنا سمعتها في إحدى القنوات الفضائية، أو اطلعت عليها في موقع للرافضة أو الملاحدة. ويريد حلَّ هذه الشبهة. فيقال: المسألة منهجية من الأساس، فمَن الذي قال لك: إنه يحل أن تدخل في مثل هذه المواقع؟!
فإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ». وهذا الحديث أكرره كثيرًا؛ لأنه يعالج الواقع والوضع الموجود الآن، يقول صلى الله عليه وسلم: « مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ -فليبعد عنه- فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِي يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، ثُمَّ لا يَلْبَثُ أَنْ يَتْبَعَهُ»(9). نسأل الله العفو والعافية.
فالدجال يدعو إلى ربوبيته، فهل هناك أوضح وأبين من كذب رجل من بني آدم أعور العين اليمنى، يقول: إنني الرب؟! لا شك أن وضوحها جلي، ومع ذلك يقول الرؤوف الرحيم صلى الله عليه وسلم: « مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ»؛ أي: فليبعد، مع أن الدجال لا يبث شبهًا يمكن أن تروج بسهولة في الناس، فهو يقول للناس: أنا ربكم. عياذًا بالله، وهذه واضحة البطلان، جلية مثل الشمس، ومع ذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإتيان إليه، وبيَّن -صلوات الله وسلامه عليه- السبب، فقال: «فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ». أي يقول: أنا ليس عندي إشكال، سأذهب إلى هذا الخبيث، إما لأناظره في رأيه، أو لمجرد أن أطلع على وضعه، «فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، ثُمَّ لا يَلْبَسُ أَنْ يَتْبَعَهُ لِمَا مَعَهُ مِنَ الشُّبَهِ». أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان هذا يُقَال في الدجال، ففيما دون الدجال أيضًا؛ لأن الدجال هو أكبر فتنة، ففي الحديث الصحيح: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِالدجال »(10). نسأل الله العافية والسلامة؛ ولهذا يتعوذ بالله منه في كل صلاة في التحيات.
فإذا كانت هذه وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته في أمر واضح البطلان مثل الشمس، فكيف يعرض المسلم نفسه لمثل هذه الشبه؟! ويرى أنها نوع من الثقافة، ونوع من الاطلاع على الآخرين، ونوع من توسيع المدارك، وبعد عن ضيق الأفق وقلة الوعي، يريد أن يستدرج المسلم؛ ولهذا فبعضهم يفخر بأن عنده كتب سارتر(11) الملحد، وكتب لينين(12)... وغيرهم، ويظن أن هذا أمر يمدح عليه، حتى يقول بعضهم: عندي في مكتبتي صحيح البخاري جنبًا إلى جنب مع كتب سارترلينين! نسأل الله العفو والعافية والسلامة.
أتظنك تُحْمَد بمثل هذا؟! هذا خلاف منهج السلف، والكتب الضالة التي تحمل الكفر والزيغ والضلال، الأصل منعها وعدم اقتنائها إلا لمن لديه قدرة من أهل العلم للرد عليها، أما أن تكون كلأً، وكل الأفكار تتطلع عليها، فلا شك أن هذا على مخالف لمنهج السلف.
إن مخالفة منهج السلف الصالح -أيها الإخوة- لا يعني أن تؤول الصفات فقط، فمن الناس مَن يظنون أن مخالفة منهج السلف أن تؤول الصفات مثل المعتزلة، ويظن أن مخالفة منهج السلف أن تسب الصحابة الكرام فقط، بل منهج السلف -رضي الله عنهم- منهج متكامل في السلوك، وفي جانب الاعتقاد، وفي جانب العبادة والتعبد والأعمال، فهو منهج متكامل لا يجتزئ بعض منه، إنما يؤخذ متكاملاً؛ لأنهم تلقوه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا مما ينبغي أن يفطن له غاية الفطنة في أمر الشبه.
يتبع بإذن الله تعالى .