ثالثاُ: الحنفية من الزيدية:
هم أتباع زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة – رضي الله عنها – ولا يرونها في غيرهم، إلاَّ أنهم جوَّزوا إمامة المفضول مع وجود الفاضل، لذا صححوا إمامة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه -. وكان زيد بن عليّ لا يتبرأ من الشيخين، فلما سمعت شيعة الكوفة هذه المقالة رفضوه فسميت رافضة [132]. وقد تتلمذ زيد بن عليّ هذا على واصل بن عطاء الغزَّال إمام المعتزلة، وحكى المقبلي [133] عن بعض الأشعرية أن الزيدية مقلدون للمعتزلة في الأصول، والحنفية في الفروع. ولكن علق على ذلك بقوله: "فليس موافقتهم للحنفية غالبة، بل ذلك في بعض أئمتهم" [134]. لكن ذكر الشيخ أحمد بن عبد الأحد السرهندي الحنفي: "أن الزيدية في الفروع على مذهب أبي حنيفة وفي الأصول على مذهب المعتزلة" [135]. أما الكوثري فقد ذكر أن مذهب زيد بن عليّ متفق في معظمه مع مذهب أبي حنيفة لاتحاد مصدر المذهبين [136].
فتأثر الزيدية بالإمام أبو حنيفة، ذلك لأن الإمام كان يرى في أول أمره جواز الخروج مع زيد بن عليّ أي الخروج بالسيف على السلطان الجائر، فقد قال الجصاص: "وكان مذهبه – رحمه الله – مشهوراً في قتال الظلمة وأئمة الجور، لذلك قال الأوزاعي: احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتَّى جاءنا بالسيف – بعني قتال الظلمة – فلم نحتمل، ثم قال: وقضيته في أمر يزيد بن عليّ مشهورة في حمله المال إليه، وفتيا الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن..." [137] فقد خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة وأخوه بالبصرة فأيَّدهم بعض العلماء والقُراء، ومنهم أبو حنيفة. قال ابن العماد: "خرج مع إبراهيم كثير من العلماء منهم هشيم وأبو خالد الأحمر وعيسى بن يونس وعياد بن العوام ويزيد بن هارون وأبو حنيفة كان يجاهر بأمره ويحث الناس على الخروج معه كما كان مالك يحث الناس على الخروج مع أخيه محمد" [138] ويؤيد ما حكاه الجصاص وابن العماد ما أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة بسندٍ صحيحٍ عن أبي يوسف قال: "كان أبو حنيفة يرى السيف" [139]. وروي كذلك بسند صحيح عن إبراهيم بن شماس قال: "قال رجلٌ لابن المبارك ونحن عنده إن أبا حنيفة كان مرجئاً يرى السيف فلم ينكر عليه ذلك ابن المبارك" [140].
ولكن، قد أستقر آخر الأمر عند الإمام أبو حنيفة على عدم الخروج. دلَّ على هذا ما قرره واختاره الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه حيث قال: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزَّ وجلَّ فريضةً، ما لم يأمروا بمعصيةٍ، وندعو لهم يالصَّلاح والمعافاة" [141]. وما ذكره الطحاوي هو ما حكاه ابن الهمام عن أبي حنيفة في المسايرة وأقرَّه الشارحان، ابن أبي الشريف وابن قطلوبغا وكذا ذكره البزدوي. قال ابن همام: "وإذا قلَّد عدلاً، ثم جار وفسق لم ينعزل، ويستحق العزل إن لم يستلزم فتنة، ويجب أن يدعى له ولا يجب الخروج عليه كذا عن أبي حنيفة وكلمتهم قاطبة" [142]. وقال البزدوي: "الإمام إذا جار أو فسق لا ينعزل عند أصحاب أبي حنيفة بأجمعهم وهو المذهب المرتضيُّ" [143]. وقد اقر الإمام أبو حنيفة نفسه بهذا، فقد سأله أبو مطيع البلخي قائلاً له: " ما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتَّبعه على ذلك ناس فيخرج على الجماعة، هل ترى ذلك؟ قال: لا. قلت: ولم؟ وقد أمر الله تعالى ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا فريضة واجبة. فقال: وهو كذلك، لكن ما يفسدون من ذلك يكون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال المحارم وانتهاب الأموال، وقد قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9] قال أبو مطيع: فنقاتل الفئة الباغية بالسيف؟ قال: نعم تأمر وتنهى فإن قبل وإلاَّ قاتلته فتكون مع الفئة العادلة وإن كان الإمام جائراً، ثم قال له بعد ذلك: وكن مع الفئة العادلة والسلطان الجائرِ ولا تكن مع أهل البغي" [144] وهذا يدل على إن الأمر استقر عند الإمام على عدم الخروج.
============================
رابعاً: الحنفية من المعتزلة:
إن إمام المعتزلة هو واصل بن عطاء بن حذيفة الغزال من موالي بني ضبة أو بني مخزوم. لقب بالغزال ولم يكن غزالا لتردده على سوق الغزالين. سمي أصحابه بالمعتزلة لاعتزاله حلقة درس الحسن البصري مع صاحبه عمرو بن عبيد. إن الاعتزال كمذهب عقائدي نشأ حين افترق الناس إلى الخوارج وشيعة, وتساءل الناس عن مصير الذين خاضوا في الفتن, وفيها قتلت نفوس بغير حق, مما يعتبر من الذنوب الكبائر. وهنا طرحت مسألة مرتكب الكبيرة, فقال لخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - إن مرتكب الكبيرة كافر يجب قتله وهو مخلد في النار, وسئل الحسن البصري عن ذلك, فقال: إنه مؤمن ولكنه فاسق, فخالفه تلميذه واصل بن عطاء ومعه عمرو بن عبيد فقالا: إن مرتكب الكبيرة فاسق, ولكنه في منزلة بين المنزلتين, فهو غير مؤمن إيماناً مطلقاً, ولا هو كافر مطلقاً, ويكون كافراً ومخلداً في النار إذا مات ولم يتب توبة نصوحاً. وهنا أعتزل واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد مجلس أستاذهما الحسن البصري وسمي أتباعهما المعتزلة. كان هذا بداية اتجاه فكري, وسمو بالعقلانيين, أحرار الفكر الذين يقولون بأن للعقل الولاية الأولى في الحكم على الأشياء. وبذلك يكون لمفكري الإسلام قصب السبق إلى هذا الاتجاه الفكري. أقام المعتزلة مذهبهم على خمس أصول هي: أولاً؛ التوحيد: وهو لب مذهبهم, فهم يرون أن الله واحد أحد ليس كمثله شيء, وأنه ليس بجسم ولا شبح ولا صورة ولا شخص, ولا هو جوهر ولا عرض, وهو عندهم منزه عن المشابهة والمماثلة مع المخلوقات والمحدثات. وقالوا: لو كان لله صفة كالعلم والإرادة والسمع والبصر, مستقلة عن ذاته, لاقتضى أن تكون تلك الصفة قديمة, والإقرار بقدمها يقتضي الإقرار بوجود قديمين, وبذلك يكون لله شريك في القدم, وهذا شرك ينافي التوحيد. وعلى ذلك بنوا قولهم بنفي الصفات عن الله وبخلق القرآن – تعالى الله عما يقول الظالمون -. ثانياً؛ حرية الاختيار: وعندهم أن الأصل في الإنسان أنه حر في اختيار أفعاله, وهو الذي يفعلها ويحاسب عليها, فيثاب إن كانت خيرا ويعاقب إن كانت شرا. فهو مسئول عن أفعاله. وعندهم أن الإنسان قادر على خلق أفعاله بقدرة أودعها الله فيه, وجعله يميز بها الخير عن الشر. ومن أجل ذلك سمي مذهبهم بمذهب القدرية نسبة إلى قدرة الإنسان على صنع أعماله, وفي ذلك خالفوا الجبرية الذين قالوا إن الله هو الذي يخلق أفعال الإنسان, وإن الإنسان مجبر عليها ولا خيرة له فيها. وحجة المعتزلة في مذهبهم أن الله تعالى لو كان هو الذي يخلق أفعال الشر, فيكون ظالماً إذا حاسب الإنسان عليها والله تعالى منزه عن الجور. وقد تلقوا هذا الأساس عن معبد الجهني وغيلان الدمشقي القدريين. ثالثاً؛ الوعد والوعيد: وهو يعني أن من أطاع الله تعالى دخل الجنة, ومن عصاه دخل النار, وهذا وعد الله للمطيعين ووعيده للعاصين. من هذا الأصل قالوا: لا يغني عن المرء إيمانه إذا لم يفعل الخير ويصدق العمل الصالح هذا الإيمان. رابعاً؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ومن هذا الأصل انطلقوا في الدفاع عن الإسلام والذود عنه أمام سيل الزندقة الذي اندفع في أول العصر العباسي. خامساً؛ المنزلة بين المنزلتين: ويعني الحكم على مرتكبي الذنوب الكبيرة بالخلود في النار إذا ماتوا دون توبة نصوح, وتسميتهم فسقة وجعلهم في مرتبة أدنى من المؤمنين وأعلى من الكفار, وهذا ما عنوه بقولهم إنهم في منزلة بين المنزلتين. [145] والمعتزلة كانوا في بدايتهم أصحاب فكر جدلي منطقي متحمس وثقافة واسعة ناقدة استخدموها في الدفاع عن العقيدة الإسلامية وفي مواجهة خصوم الإسلام خصوصاً من أصحاب الأديان المنسوخة وبعض أصحاب الثقافات الدينية الوثنية الذين دخلوا بتراثهم إلى الإسلام وأردوا نشره بين المسلمين، فكان للمعتزلة في البداية، جهد مشكور ودور محمود ونجاح مشهود في هذا المضمار. ولأن الخصم في الطرف المقابل يرفض القبول بالنقل عن نصوص الإسلام كحجة عليه والمعتزلة يرفضون نصوص عقيدته أو ثقافته كحجة عليهم أو على الإسلام، كان لابد من لجوء الطرفين إلى الأدلة العقلية المحضة في المجادلة والحجاج وكان النصر في الغالب حليف المعتزلة على خصومهم من أصحاب الأديان المنسوخة والنحل الوثنية. لكن طول الجدل والحجاج بالأدلة العقلية أدى بالمعتزلة كما قلنا آنفاً إلى حالة من العدوى المزمنة وإلى نوع من الشطط والإفراط والإغراق في استخدام تلك الفرضيات والنظريات والبراهين العقلية، وأتجه بهم إلى الركون المطلق على العقل فقط ورفض - أو على الأقل - استبعاد النقل من نصوص القرآن والسنة في مسائل العقيدة، وإلى تطرف وتعصب ممقوت وإلى تقديس للعقل وإعجاب بالنفس واستعلاء على الغير فاعتسفوا وتنطعوا كثيرا وبشكل أدى بهم إلى انحرافات خطرة كان من أبرزها رفض الأدلة النقلية من نصوص المصادر الإسلامية في مسائل العقيدة بل ومخالفتها في كثير من الأحيان من النقيض إلى النقيض وإلى الاستقواء بالحكام الذين ذهبوا مذهبهم لفرض معتقداتهم كما حصل في قضية خلق القرآن في عهد المأمون العباسي وغيرها من أصولهم الخمسة، حين فرضوها على العلماء والعامة بسوط السلطان وقهر القوة وإرهاب الدولة.
وفد تسرب الاعتزال إلى الحنفية شيئاً فشيئاً حتى دخل الاعتزال إلى أسرة الإمام أبي حنيفة فقد كان حفيد الإمام من دعاة الفتنة بخلق القرآن [146]. ومن هؤلاء الحنفية المعتزلة [147]:
1) إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.
2) بشر المريسي، جهمي معطل خالف المعتزلة في أفعال العباد ووافق السلف لذا هجرته المعتزلة. [148]
3) محمد بن شجاع البلخي، تلميذ المريسي. [149]
4) أحمد بن ابن أبي داود بن جرير الحنفي المعتزلي، قاضي المأمون. [150]
5) محمد بن أبي الليث الأصم الحنفي المعتزلي، قاضي مصر وأحد رؤوس الفتنة في تعذيب أهل السنَّة. [151]
6) أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي الحنفي المعتزلي إمام الهاشمية من فرق المعتزلة. [152]
7) أحمد بن عمر الخَصَّاف، قال عنه اللكنوي: " كان فرضياً عارفاً بمذهب أبي حنيفة" [153].
8) عبد الله بن احمد البلخي أبو قاسم الكعبي الحنفي إمام الكعيبة من المعتزلة بغداد. [154]
9) محمد بن عليّ البصري أبو الحسين الحنفي المعتزلي صاحب كتاب "المعتمد في الأصول". [155]
10) أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب الجبائي الحنفي، إمام المعتزلة في وقته وشيخ أبي الحسن الأشعري. [156]
11) أحمد بن الحسين أبو سعيد البردعي القاضي الحنفي، رأس المعتزلة وشيخ أبي الحسن عبيد الله الكرخي. [157]
12) الحسين بن عليّ البصري المعتزلي الحنفي، قال عنه الصيمري: "لم يبلغ أحد مبلغه في العلمين أعني الفقه والكلام". [158]
13) أبو الفتح عثمان بن جني الحنفي المعتزلي. [159]
14) إسماعيل بن عليّ بن الحسين الحنفي المعتزلي أبو سعيد السمان. [160]
15) عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمداني المعتزلي الحنفي. [161]
16) محمود بن عمر الزمخشري، قال عنه اللكنوي: "كان إمام عصره بلا مدافع نحوياً ذكياً فقيهاً مناظراً متكلماً أديباً شاعراً مفسراً من أكابر الحنفية، حنفي المذهب معتزلي المعتقد." [162]
17) مختار بن محمد أبو رجاء نجم الدين الزاهدي الغزميني، قال عنه اللكنوي: "كان من كبار الأئمة وأعيان الفقهاء عالماً... له اليد الباسطة في الخلاف والمذهب والباع الطويل في الكلام والمناظرة... صرح ابن وهبان وغيره أنه معتزلي الاعتقاد حنفي الفروع." [163]
وغيرهم من أئمة الإعتزال. قال المعلمي: "وهل كانت المحنة في زمن المأمون والمعتصم والواثق إلاَّ على يدي أصحابكم – يعني الحنفية المعتزلة – ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم – يعني أبا حنيفة – إلى أن قال: كانت المحنة على يدي أصحابكم، واستمرت خلافةَ المأمون، وخلافةَ المعتصم، وخلافةَ الواثق، وكانت قوة الدولة كلها تحت إشارتهم، فسعوا في نشر مذهبهم في الاعتقاد وفي الفقه في جميع الأقطار، وعمدوا إلى من يخالفهم في الفقه بأنواع الأذى ولذلك تعمدوا أبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر عالم الشام وارث فقه الأوزاعي والإمام أحمد بن حنبل حامل راية فقه الحديث وأبا يعقوب البويطي خليفة الشافعي وابن الحكم وغيره." [164]
وكان من أشد الناس تعذيباً للمخالفين وتحمساً للقول بخلق القرآن، أحمد بن أبي داود قاضي القضاة ومحمد بن أبي الليث قاضي مصر في أيام المعتصم والواثق. قال ابن قديد: "ورد كتاب المعتصم على هارون بن عبد الله – قاضي مصر – بحمل الفقهاء في المحنة فاستغنى هارون من ذلك فكتب ابن أبي داود إلى محمد بن أبي الليث يأمره بالقيام في المحنة وذلك قبل ولايته القضاء وكان رأساً في القيام بذلك فحمل نعيم بن حماد والبويطي وخشنام المحدث في جمعٍ كثيرٍ سواهم." [165] وقال عليّ بن عمرو بن خالد: "لما استخلف الواثق ورد كتابه على محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمع، فلم يبقَ أحد من فقيه ولا محدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أُخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، وملئت السجون ممن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث بالاكتتاب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق" فكتب بذلك على المساجد فسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد، وأمرهم ألاَّ يقربوه." [166]
واستمرت المحنة حتى تولى الخلافة المتوكل؛ فأظهر الله السنَّة وفرج عن الناس [167]. قال الذهبي: "وفي سنة 234هـ أظهر المتوكل السنَّة، وزجر عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار واستقدم المحدثين إلى سمراء وأجزل صلاتهم ورووا أحاديث الرؤية والصفات." [168] وقال ابن الجوزي: "وفي سنة 407هـ استتاب القادر بالله أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية فأظهروا الرجوع وتبرأوا من الاعتزال ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام، وأخذ خطوطهم بذلك، وأنهم متى خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتَّعظ بن أمثالهم." [169]
الإمام أبو حنيفة ثاقب البصيرة، وقد علم بشر المعتزلة ولعنهم، فقد لعن الإمام أبو حنيفة عمرو بن عبيد صاحب واصل بن عطاء إمام الإعتزال؛ فقد روى الهروي عن محمد بن الحسن قال: "قال أبو حنيفة: لعن الله عمرو بن عبيد فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام." [170] وقال الإمام أبو حنيفة عن المعتزلة: "لم يكن في طبقات أهل الأهواء أحد أجدل من المعتزلة؛ لأن ظاهر كلامهم مموه تقلبه القلوب." [171] وأنكر عليهم إبطالهم للصفات حيث قال: "ولا يقال: إن يده قدرته أو نعمته لأن فيه أبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف." [172] ورد عليهم قولهم: إن القرآن مخلوق؛ حيث قال: "وكلام الله تعالى غير مخلوق." [173] وقرر هذا الطحاوي في بيان اعتقاد أهل السنَّة والجماعة على مذهب أبي حنيفة وصاحبيه؛ حيث قال: "وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية." [174]
أما الصاحبان فأبو يوسف كان يرمي المعتزلة بالزندقة [175]، وأما محمد بن الحسن فيوصي من صلَّى خلف المعتزلي بإعادة صلاته [176] ويرى أن المعتزلي لا تجوز الصلاة عليه [177]. وبالجملة فكتاب الإمام أبو حنيفة "الفقه الأكبر" رد على الجهمية والمعتزلة فيما أنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته، فقد ضمنه جملة من الصفات الإلهية التي وردت في الكتاب والسنَّة الصحيحة.
=============================
خامساً: الحنفية من المرجئة:
المرجئة والخوارج فرقتان متقابلتان في الإيمان، فالخوارج تعد كل كبيراً كفراً سواء كفر نعمة أو كفر شرك، فجاءت المرجئة فأعلنت أن الإيمان هو المعرفة [178] فقط. وهؤلاء معروفون بمرجئة الجهمية، وبعضهم قالوا: "إن الإيمان هو إقرار باللسان [179]، وهم مرجئة الكرامية، وبعضهم زعموا أن الإيمان: هو تصديق فقط [180]. وذهب جمهورهم [181] إلى أن الإقرار شرط لإجراء الأحكام الدنيوية وهؤلاء معروفون بمرجئة الماتريدية. وقال بعضهم: إن الإيمان هو التصديق والإقرار [182]. وهؤلاء معروفون بمرجئة الفقهاء. وسموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان."
ولم يكن في زمن الإمام أبي حنيفة إلا مرجئة الكرامية ومرجئة الفقهاء، فكان الإمام أبو حنيفة يرد على من يقول: إن الإيمان هو المعرفة، وأن أهل القبلة لا يدخلون النار مهما اقترفوا من المعاصي، وزعموا أنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة [183]: "ونقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، لا نقول: إنه لا يدخل النار... ولا نقول إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة." [184]
مع هذا فأبو حنيفة عنده شيء من الإرجاء الخفيف، وهو من مرجئة الفقهاء، غير أنه بريء من بقية أنواع الإرجاء. ولقد تبرأ الإمام أبو حنيفة ممن نسب إليه الإرجاء؛ فقال في رسالته إلى البتي: "وأما ما ذكرت من اسم المرجئة فما ذنب قوم تكلموا بعدل، وسماهم أهل البدع بهذا الاسم، ولكنهم أهل عدل وأهل السنَّة وإنما هذا اسم سماهم به أهل الشنآن." [185] وإنما قال ذلك بناء على مفهوم الإرجاء عنده، وهو مذهب غلاة المرجئة الذين يجعلون الإيمان: هو المعرفة؛ فلا يضر معه ذنب. والمسائل الخلافية بين مرجئة الفقهاء وبين بقية أهل السنَّة يرجع إلى خلاف لفظي في بعض المسائل المتنازع فيها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنه لم يكفر أحد، من السلف من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنَّة هو الصواب." [186] ويقول: "ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنَّة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلاَّ فالقائلون بأن الإيمان قول من فقهاء – كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم – متفقون مع جميع علماء السنَّة أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا: إن إيمانهم كما كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضاً: إن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة." [187]
فإن بين مرجئة الفقهاء، ومنهم الإمام أبو حنيفة، وبين بقية أئمة السنَّة قدراً مشتركاً وقدراً مفترقاً. فأما القدر المشترك فهو:
1) أن الإيمان مركب وليس بسيطاً، كما عليه غلاة المرجئة من الكرَّامية والماتريدية.
2) أن مرتكب الكبيرة لا يكفر ولا يُنْفى عنه مسمى الإيمان ولا يخلد في النار بل هو مؤمن فاسق.
3) أن الإقرار يزول وقت الإكراه، دون التصديق. [188]
4) أن الاستثناء في الإيمان لا يجوز لأجل الشك.
وأما القدر المفترق فيه:
1) الإيمان عند أبي حنيفة التصديق بالجنان والإقرار باللسان فقط، وأما بقية الأئمة فهو هذان الأمران والعمل بالأركان.
2) أن الأعمال خارجة عن مسمى الإيمان عند أبي حنيفة داخلة فيه عند بقية الأئمة.
3) أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أبي حنيفة ويزيد وينقص عند بقية أئمة السنَّة.
4) لا يجوز الاستثناء في الإيمان عند أبي حنيفة مطلقاً، ويجوز في حال دون حال عند أئمة السنَّة.
لذلك ذهب الغزالي [189] والذهبي [190] وابن أبي العز، إلى القول بأن الخلاف هو خلاف صوري. وفي ذلك يقول ابن أبي العز: "الاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنَّة صوري فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزء من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد." [191] فليس المقصود النزاع اللفظي الذي لا يترتب عليه خلاف في المعنى، فيكون من قبيل اختلاف التنوع، بل مقصوده أنه نزاع يتعلق بالأسماء وهي من الألفاظ، يدل عليه قول ابن تيمية: " بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنَّة هو الصواب". [192]
ومن الحنفية الذين تلبسوا بعقيدة المرجئة:
1) بشر بن غياث المريسي المتوفى سنة 228هـ وإليه تنسب المريسية وقد عدَّها بعض كتاب المقالات [193] من فرق المرجئة. قال عنه الإسفراييني: "منهم المريسية أصحاب بشر المريسي ومرجئة بغداد من أتباعه، وكان يتكلم بالفقه على مذهب أبي يوسف القاضي ولكنه خالفه بقوله إن القرآن مخلوق وكان مهجوراً من الفريقين وهو الذي ناظر الشافعي – رضي الله عنه – في أيامه فلما عرف الشافعي أنه يوافق أهل السنَّة في مسألةٍ والقدرية في مسألةٍ قال له: نصفك مؤمن ونصفك الآخر كافر. وكان يقول: الإيمان هو تصديق بالقلب واللسان كما قاله ابن الراوندي. هذه المرجئة المحضة الذين يتبرأون عن القول بالجبر والقدر." [194]
2) محمد بن كرام الجستاني المتوفى سنة 255هـ وإليه تنسب فرق الكرامية وقد عدها بعض كتاب المقالات من المرجئة [195]، فمحمد بن كرام جمع مع بدعة الإرجاء بدعة التجسيم وقد زعم أن الله تعالى له جسم له حد ونهاية [196]. قال عنه الذهبي: "المبتدع شيخ الكرامية، كان زاهداً عابداً ربانياً بعيد الصيت كثير الأصحاب... كان يقول: الإيمان هو نطق باللسان بالتوحيد مجرداً عن عقد قلب وعمل جوارح. وقال خلق من الأتباع له: إن الباري جسم لا كالأجسام... وكان الكرامية كثيرين بخرسان ولمهم تصانيف ثم قلوا وتلاشوا نعوذ بالله من الأهواء" [197].
3) محمد بن محمد بن محمود أبو منصور, والمعروف بالماتريدي, نسبة إلى ماتريد محلة بسمرقند فيما وراء النهر. والمتوفى سنة 333هـ، فهو من أئمة علم الكلام, أقام نظرياته في العقائد على المأثور عن أبي حنيفة النعمان, فهو يثبت أدلة الشرع بالأدلة العقلية والمنطقية والبراهين التي لا مجال للشك فيها, وهو يجعل للعقل سلطاناً ولكن تحت ظل النقل, فهم يفسرون النصوص على مقتضى حكم العقل, والماتريديون أقرب إلى المعتزلة منهم إلى الأشاعرة. فمباحث الإيمان من الأمور التي اعتركت الآراء حولها قديماً وحديثاً، والماتريدية لم موقف من الإيمان وافقوا في بعض نواحيه الإمام أبا حنيفة – رحمه الله – وخالفوه في بعضها. اتَّفقت الماتريدية مع أبي حنيفة في أربعة أمور، وهي: إخراج العمل عن مسمى الإيمان وأن الإيمان هو التصديق [198]، عدم زيادة الإيمان ونقصانه [199]، تحريم الاستثناء [200]، عدم تكفير صاحب كبيرة [201]. أما ما خالفت الماتريدية الإمام أبو حنيفة في مفهوم الإيمان، إن مفهوم الإيمان عند الإمام أبي حنيفة مركب من أمرين التصديق بالقلب، والإقرار باللِّسان. فالإقرار باللسان شطر من الإيمان وداخلٌ فيه. أما الماتريديُّ وجمهور أتباعه – لأن بعض الماتريدية ذهبوا إلأى أن الإيمان هو التصديق والإقرار - [202] فقد جعلوا الإقرار باللسان خارجاً عن حقيقة الإيمان، فالإيمان عندهم هو التصديق [203]، غير أنَّهم جعلوا الإقرار شرطاً لإجراء الأحكام الدنيوية فقط [204]. وهذا النَّوع من الإرجاء الغالي.