المــعـــــــــــــــــــــــلـــوم
من واجـــــــب العـــــــــلاقة بيـــــــن
الحــــاكــــــــــم و الـمـحـــــــــــكــــــوم
تـــــــــألــيــــــــــــــــــف
سماحة الشيخ العلاّمة عبد العزيز بن عبد الله بن باز
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
إعــــــــــــــــــــــــــــــداد
أبي عبد الله بن إبراهيم آل بلطيح الوايلي
المقدّمة
******
الحمد لله رب العالمين و صلى الله و سلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد و على آله و صحبه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .. و بعد :
فهذه مجموعة من الأسئلة طرحت على سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – حفظه الله – المفتي العام بالمملكة العربية السعودية .
و لنا مزيد من الشرف في جمعها و تدوينها ثم نشرها رجاء أن ينفع بها الله قارئها و سامعها و أن يجزي الله من قام و تكفل بطبعها خير الثواب و الجزاء ، و كان ختام هذه الأسئلة نتفاً من كلام سلف الأمة و مصلحيها حول هذا ، و المؤمن الحق أن يكون ضالته الكتاب و السنّة الصحيحة ، فإن كان حلالاً عمل به و إن خالف قول فلان من الناس ، و إن كان حراماً تركه و إن خالف قول فلان من الناس كائناً من كان .
و لله در الشاعر حين قال :
دَعُوا كلَّ قول ٍ عند قول محمد ٍ *** فما آمنٌ في دينه كمخاطر ِ
و مثله قول أبي بكر بن داود حين قال :
و دَعْ عنك آراء الرجال و قولَهم *** فقولُ رسول الله أزكى و أشرحُ
نسأل الله أن يجزي علماءنا خير الجزاء و أن ينفع بهذا الجهد و الله أعلم و صلى الله و بارك على محمد و آله و صحبه و سلم .
*******
سؤال (1) :
سماحة الشيخ هناك من يرى أن اقتراف بعض الحكام للمعاصي و الكبائر موجب للخروج عليهم و محاولة التغيير و إن ترتب عليه ضرر للمسلمين في البلد ، و الأحداث التي يعاني منها عالمنا الإسلامي كثيرة فما رأي سماحتكم ؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و صلى الله على رسول الله و على آله و أصحابه و من اهتدى بهداه . أما بعد :
فقد قال الله عز و جل :
" يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلاً "
/ سورة النساء ، الآية : 59 /
فهذه الآية نص في وجوب طاعة أولي الأمر و هم الأمراء و العلماء ، و قد جاءت السنّة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تبين أن هذه الطاعة لازمة و هي فريضة في المعروف .
و النصوص من السنّة تبين المعنى ، و تفيد الآية بأن المراد طاعتهم بالمعروف ، فيجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف لا في المعاصي ، فإذا أمروا بالمعصية فلا يُطاعون في المعصية لكن لا يجوز الخروج عليهم بأسبابها لقوله صلى الله عليه و سلم :
" ألا مَنْ وَلِيَ عليه وال ٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله و لا ينزعنَّ يداً من طاعة "
/ أخرجه مسلم ( 1855 ) ، و أحمد : ( 6/24 ، 28 ) ، و غيرهم من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه . و أوله : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ..... " . /
" و من خرج من الطاعة و فارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهلية "
/ أخرجه مسلم : ( 1848 ) ، و أحمد : ( 2/296 ) ، و غيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . /
و قال صلى الله عليه و سلم :
" على المرء السمع و الطاعة فيما أحب و كره ، إلا أن يُؤمَر بمعصية ، فإن أُمِرَ بمعصية فلا سمع و لا طاعة " .
/ أخرجه مسلم : ( 1839 ) ، و النسائي : ( 7/160 ) ، و غيره من حديث ابن عمر رضي الله عنه . /
و سأله الصحابي – لما ذكر أنه يكون أمراء تعرفون منهم و تنكرون – قالوا :
" فما تأمرنا ؟ "
قال : " أدُّوا إليهم حقَّهم و سلوا الله حقّكم "
/ متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه /
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه :
" بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع و الطاعة في منشطنا و مكرهنا و عسرنا و يسرنا و أثرة علينا و أن لا ننازع الأمر أهله " ، و قال :
" إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان "
بواحاً : أي ظاهراً مكشوفاً .
/ أخرجه مسلم : ( 1709 ) ، و النسائي : ( 2/180 ) ، و ابن أبي عاصم و غيره . /
فهذا يدل على أنهم لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور و لا الخروج عليهم إلا أن يروا كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان ، و ما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة الأمور يُسَبِّبُ فساداً كبيراً و شراً عظيماً فيختل به الأمن ، و تضيع الحقوق و لا يتيسر ردع الظالم و لا نصر المظلوم ، و تختل السبل و لا تأمن ، فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم و شر كثير ، إلا إذا رأى المسلمون كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان ، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة ، أما إذا لم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا ، أو كان الخروج يسبب شراً أكثر فليس لهم الخروج رعاية للمصالح العامة ، و القاعدة الشرعية المجمع عليها ( أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه ) و أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين ، فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفراً بواحاً و عندها قدرة تزيله بها و تضع إماماً صالحاً طيّباً من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين و شر أعظم من شر هذا السلطان فلا بأس ، أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير و اختلال الأمن و ظلم الناس ، و اغتيال من لا يستحق الاغتيال إلى غير هذا من الفساد العظيم ، فهذا لا يجوز بل يجب الصبر و السمع و الطاعة في المعروف و مناصحة ولاة الأمور و الدعوة لهم بالخير ، و الاجتهاد في تخفيف الشر و تقليله و تكثير الخير ، هذا هو الطريق السويّ الذي يجب أن يسلك ، لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة ، و لأن في ذلك حفظ الأمن و سلامة المسلمين من شر أكثر ، نسأل الله التوفيق و الهداية للجميع .
***
سؤال (2) :
سماحة الوالد : نعلم أن هذا الكلام أصل من أصول السنّة و الجماعة و لكن هناك " للأسف " من أبناء أهل السنّة و الجماعة من يرى هذا فكراً انهزامياً و فيه شيء من التخاذل و قد قيل هذا الكلام ... لذلك يَدْعُون الشباب إلى تبنّي العنف في التغيير ؟
جواب :
هذا غلط من قائِلِهِ و قلّة فهم ؛ لأنهم ما فهموا السنّة و لا عرفوها كما ينبغي ، و إنما تحملهم الحماسة و الغيرة لإزالة المنكر على أن يقعوا في ما يخالف الشرع كما وقعت الخوارج و المعتزلة ، حملهم حب نصر الحق أو الغيرة للحق ، حملهم ذلك على أن وقعوا في الباطل حتى كفَّروا المسلمين بالمعاصي ، أو خلَّدوهم في النار بالمعاصي كما تفعل المعتزلة .
فالخوارج كفَّروا بالمعاصي و خلَّدوا العصاة في النار ، و المعتزلة وافقوهم في العاقبة و أنهم في النار مخلدون فيها و لكن قالوا : إنهم في الدنيا في منزلة بين المنزلتين ، و كله ضلال ، و الذي عليه أهل السنّة هو الحق أن العاصي لا يكفر بمعصيته ما لم يستحلّها .
فإذا زنا لا يكفر ، و إذا سرق لا يكفر ، و إذا شرب الخمر لا يكفر ، و لكن يكون عاصياً ضعيف الإيمان فاسقاً تُقام عليه الحدود و لا يكفر بذلك إلا إذا استحلّ المعصية و قال إنها حلال ، و ما قاله الخوارج في هذا باطل ، و تكفيرهم للناس باطل ، و لهذا قال فيهم النبي صلى الله عليه و سلم :
" إنهم يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون فيه "
/ بعض حديث أخرجه البخاري و مسلم و غيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه مع اختلاف في لفظه /
فهم يقاتلون أهل الإسلام و يَدَعُون أهل الأوثان ! هذه حال الخوارج بسبب غلوّهم و جهلهم و ضلالهم ، فلا يليق بالشباب و لا غير الشباب أن يقلّدوا الخوارج و المعتزلة ، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنّة و الجماعة على مقتضى الأدلّة الشرعية فيقفون مع النصوص كما جاءت ، و ليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص ٍ وقعت منه ، بل عليهم المناصحة بالمكاتبة و المشافهة ، بالطرق الطيبة الحكيمة ، بالجدال بالتي هي أحسن حتى ينجحوا و حتى يقلّ الشر أو يزول و يكثر الخير . هكذا جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و الله عز و جل يقول :
" فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك "
/ سورة آل عمران ، الآية : 159 /
فالواجب على الغيور لله و على دعاة الهدى أن يلتزموا بحدود الشرع و أن يُناصِحوا من ولاهم الله الأمور بالكلام الطيب و الحكمة و الأسلوب الحسن حتى يكثر الخير و يقلّ الشر ، و حتى يكثر الدعاة إلى الله و حتى ينشطوا في دعوتهم بالتي هي أحسن لا بالعنف و الشدّة ، و يناصحوا من ولاهم الله بشتى الطرق الطيبة السليمة مع الدعاء لهم في ظهر الغيب أن الله يهديهم و يوفقهم و يعينهم على الخير و أن الله يعينهم على ترك المعاصي التي يفعلوها و على إقامة الحق بالأسلوب الحسن بالتي هي أحسن ، و هكذا مع إخوانه الغيورين ينصحهم و يعظهم و يذكّرهم حتى ينشطوا في الدعوة بالتي هي أحسن لا بالعنف و الشدة و بهذا يهدي الله ولاة الأمور للخير و الاستقامة عليه و تكون العاقبة حميدة للجميع .
*****
** يتبع **