وسنبين بعضاً منها في ما يلي:
1- ذكر الأستاذ في مقاله أنه لا يجوز قول (حاز على الدرجة) بل (حاز الدرجة).
قلت: هذا غير صحيح ، إذ أن التضمين في النحو يجيز للفعل المتعدي بنفسه أن يتعدى بحرف جر.
والتضمين في اللغة كما ذكره اللغويون هو إشراب اللفظ معنى لفظ آخر وإعطاؤه حكمه لتصير الكلمة تؤدي مؤدى كلمتين .
والغرض منه أن يدل بكلمة واحدة على كلمتين فيقوّي المعنى. فإذا تضمّن فعل في معناه فعلاً آخر فإنه ينزل منزلته في التعدية واللزوم، نحو قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) ففعل المخالفة متعد ، ولكنه تضمن معنى الخروج في الآية ، وهو لازم ، فيصير فعل المخالفة لازماً تبعاً لذلك.
وكذلك قوله تعالى (يشرب بها عباد الله) وفعل الشرب متعد ، ولكنه تضمّن معنى الإرواء في الآية فأصبح لازماً وتعدّى بحرف.
وكذلك قوله تعالى (ردف لكم) وفعل ردف متعد، ولكنه تضمن معنى الاقتراب في الآية فتعدى بحرف.
وباب التضمين باب واسع وسائغ في لغة العرب.
وفعل حاز متعدٍ ولكنه إن تضمّن معنى الحصول ، يصبح لازماً فيمكننا تعديته بحرف الجر ، كما في قولنا (حاز على الدرجة) بدلاً من (حاز الدرجة). وهو فصيح وجار بمقتضى لغة العرب.
وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه ، عن عثمان رضي الله عنه ، أنه قال: ( أحق من يحوز على الصبي أبوه). وأخرج عن شريح قوله: (إذا أشهر الصبي وأعلم ، فإن أباه يحوز عليه)
وذُكِر في كتاب (جمهرة خطب العرب) أن الخطيب موسى العنسي أنشد قائلاً:
والشر مهما اسطعت لا تأته ***** فإنه حوز على مهجتك
ونقل الباخزري في (دمية القصر) أن أبا سعد محمد بن حمزة الموصلي أنشد:
وألقم شدقيها الرغيبين فيلقا ***** تحوز على هوج الرياح بنوده
لهذا ؛ قبل الفقهاء تعدي الفعل (حاز) بالباء ، وذكره الشافعي في (الأم ) ، وابن البراذعي في (التهذيب) ، وابن رشد في (البيان والتحصيل) ، والقرافي في (الذخيرة) ، وابن عرفة في (الحدود) ، وابن عليش في (منح الجليل). وغيرهم الكثير.
2- ذكر الكاتب كلمة (العربون) وقال أنها بالضم ، ولا تجوز بالفتح.
قلت: بل هي جائزة بالفتح لغة ، ولكنها بالضم أفصح. ولو رجعنا إلى أعلام اللغة ، لوجدنا أن كثيراً منهم - بل أكثرهم - قد أجازها بالفتح ، كأبي منصور الهروي المتوفى في القرن الرابع الهجري ، وهو أحد أئمة اللغة ، وقد ذكر في كتابه (تهذيب اللغة 221/2) عن جواز نصب وضم العين في الكلمة.
وكذلك أجازها الجواليقي ، وابن سيده في (المحكم والمحيط الأعظم 129/2) ، والجزري في (النهاية 202/3) ، والرازي في (مختار الصحاح 204/1) ، والنووي في (تحرير ألفاظ التنبيه 176/1) ، ولسان العرب (592/1) ، وابن أبي الفضل البعلي في (المطلع 279/1) ، والصفدي في (تصحيح التصحيف 380/1) ، وابن الحنبلي في (سهم الألحاظ 56/1) ، والسيوطي في (المزهر 21/2) .
3- ذكر الكاتب كلمة (الشطرنج) ، وقال أنها صحيحة بالكسر ولا تجوز بالفتح.
قلت: هي صحيحة بالكسر وبالفتح ولكنها بالكسر أفصح. وهي لفظة فارسية معربة، وتكسر الشين ليلحق بنظيره في الوزن والصيغة في اللغة.
والكثير من أعلام اللغة قد أجازها بالفتح ، كأبي منصور اللغوي ، وقال عنها : " وبعضهم يكسر شينه ليكون على مثال من أمثلة العرب " (المطلع 500/1).
وقال ابن جني اللغوي فيها : " وكسر الشين فيه أجود " (المحكم 599/7) ، فتأمل قوله أجود ، بمعنى أفصح ، ما يشير إلى أن الفتح جيد ، أي صحيح.
وكذلك أجازها ابن سيده في (المحكم 599/7) ، والبلعي في (المطلع 500/1) ، والصفدي في (تصحيح التصحيف 336/1) ، والقلقشندي في (صبح الأعشى في صناعة الإنشاء 158/2) ، والنووي في (تحرير ألفاظ التنبيه 342/1) ، ولسان العرب (308/2).
4- ذكر الكاتب كلمة (جنازة) ، وأوجب فيها الضم ومنع الفتح. ويبدو أنه استند إلى ما ذكره الجوهري في الصحاح ، حيث قال: (والعامة تقول الجنازة بالفتح).
وكذلك قال ابن منظور في لسان العرب: " وقال الليث: وقد جرى في أفواه العامة الجنازة بنصب الجيم ، والنحارير ينكرونه " ، فقرر عدم جواز فتح الجيم ، وأنها من أخلاط العامة.
والحق أن القول المذكور لليث جاء ناقصاً في اللسان ، ونجده كاملاً في (تهذيب اللغة 329/10) ، حيث نقل عنه أبو منصور أنه قال: " الجنازة الإنسان الميت ، والشيء الذي ثقل على قوم واغتموا به هو أيضاً جنازة. وأنشد شعراً في ذلك ، ثم قال: إذا مات الإنسان فإن العرب تقول: رمي في جنازته (بالكسر) فمات. وقد جرى في أفواه العامة جنازة بالفتح والنكارير ينكرونه " - انتهى كلام الليث.
قلت: هذا يشير إلى أن مذهب الليث في الكلمة أنها تحمل المعنيين بنفس اللفظ ، وهو مخالف لما قاله الكثير من أهل اللغة.
والليث هو ابن المظفر، صاحب الخليل بن أحمد الفراهيدي ، ومتمّم كتاب (العين) وراويه عن الخليل ، حيث لم يكمل الخليل الكتاب. وقد ذكر العبارة في الكتاب.
ويظهر أن هذه العبارة كانت من كلام الخليل نفسه لا من كلام الليث ، فظن الليث أن القول بالفتح خطأ ، فمنعه.
فقد ذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب العين كلمة الجنازة ، فقال: " الجنازة بنصب الجيم وجرها الإنسان الميت والشيء الذي ثقل على قوم ". (العين 70/6).
والناظر إلى كلام الفراهيدي ، يجد أنه أقرّ بجواز الفتح والجر ، وأن الأولى تعني الميت ، والثانية تعني السرير أو الشيء الذي يثقل على القوم.
وهو قول ابن الأعرابي (غريب الحديث 177/1) ، وابن الأثير في (النهاية 306/1)، وأبي منصور الهروي في (الزاهر 89/1)، والصاحب بن عباد في (المحيط في اللغة 94/2) ، ونشوان الحميري في (شمس العلوم).
وفي معجم الصواب (300/1): " مجيء (فعالة) بكسر الفاء وفتحها فصيح مشهور في لغة العرب ".
أما الأصمعي فقال: " الجنازة بالكسر هو الميت نفسه ، والعوام يتوهمون أنه السرير" (تهذيب اللغة 329/10) ، وقد رأينا أن هذا ليس من وهم العامة بل هو ما قال به أعلام اللغة. ولعله حصل تصحيف في الرواية عن الأصمعي ، وقد يكون من وهم الأصمعي .
فالحاصل أن القول بالكسر والفتح فصيح ، صحيح في لغة العرب بمعنيين متغايرين. والظاهر أن وهم العامة كان بالقول في الفتح في المعنيين ، أو أنهم قالوا بالفتح للسرير ، ولم يستعملوها للميت.
ولهذا ؛ نجد أن سائر الفقهاء استوعبوا اللفظ وذكروا جواز الفتح لغة ، نذكر منهم النووي في (دقائق المنهاج) ، وابن حجر في (فتح الباري) ، والعيني في (عمدة القاري) ، والصنعاني في (سبل السلام) ، وابن مفلح في (المبدع) ، والزركشي في (الشرح) ، والمرداوي في (الإنصاف) ، والأنصاري في (فتح الوصايا) والهيتمي في (تحفة المحتاج) ، والرملي في (نهاية المحتاج) والشوكاني في (نيل الأوطار) وغيرهم. لذلك كان الحكم بعدم جواز الفتح مجازفة وقع فيها الكاتب ، خصوصاً بعد قبول أئمة اللغة وأئمة الفقه لهذا اللفظ.
5- ذكر الكاتب أن كلمة (مِعْدَة) بكسر الميم لا تجوز ، وأن الصواب فيها مَعِدة بفتح الميم وكسر العين.
قلت: ما ورد في كافة كتب اللغة أن كليهما صحيح ، والأول أشهر وأفصح، والثاني جائز لغة ، وهي لغة بني تميم.
قال الخليل بن أحمد في (العين): " المَعِدة ما يستوعب الطعام من الإنسان ، والمِعدَة لغة ". (العين 61/2).
وذكرها كذلك ابن السكيت في (إصلاح المنطق 128/1) ، وأبو سهل الهروي في (إسفار الفصيح 619/2) ، ونشوان الحميري في (شمس العلوم) ، وابن سيده في (المحكم والمحيط الأعظم 39/2) ، والرازي في (مختار الصحاح 295/1) ، وأبو البقاء الكفوي في (الكليات 870/1) ، والنووي في (تحرير ألفاظ التنبيه 36/1) ، وذكرها المصباح المنير (575/2) ، وتاج العروس (177/9).
وأنشد الشاعر: ومِعْدَة هاضمة للصخر ****** كأنما في جوفها ابن صخر
6- ذكر الكاتب أن كلمة (صفحة) لا تجوز وأن الصحيح هو (صحيفة).
قلت: قد اتفق أهل اللغة أن صفحة الشيء : جانبه ، وذُكِر هذا في سائر المعاجم المتقدمة والمتأخرة ، وبالتالي يمكننا اعتبار صفحة الورقة أحد وجهيها ، وهي مناسبة للمعنى. وقد أيّد ذلك مجمع اللغة المصري ، وذكره في المعجم الوسيط ، وصحّحه صاحب معجم الصواب اللغوي.
7 - ذكر الكاتب فعل الأمر من الفعل جاء ، وأنه يكتب بهذا الشكل (جاؤا).
قلت: هذا غريب ، فمن المعلوم من قواعد الإملاء في حالات الهمزة المتوسطة المضمومة ، أن الهمزة إذا كان بعدها واو ، وكان الحرف الذي قبلها لا يوصل بما بعده ، فإنها إما أن تكتب على واو عملاً بقانون اتباع الأقوى كما هو الحال عند الشاميين، مثل رؤوف ، وإما أن تكتب مفردة على السطر ، مثل أضاءوا. أما (جاؤا) فلا أدري من أين أتى به الكاتب.
وفي رسم القرآن ، قوله تعالى: ( وجاءوا أباهم عشاء يبكون).
8- ذكر الكاتب أنه لا يصح كتابة شئون بهذه الطريقة ، بل شؤون.
قلت: الكتابة الأولى هي على طريقة إملاء المصريين ، والثانية على طريقة إملاء الشاميين.
وأصل الخلاف هو مراعاة كل منهم لقانون من قوانين الإملاء. فالشاميون راعوا قانون اتباع حركة الأقوى ، فتُرسم الهمزة بمقتضاه على حرف يناسب الحركة الأقوى. أما المصريون ، فقد راعوا قانون عدم توالي الأمثال ، فالتزموا تجنب تكرار الحروف. فكلاهما صحيح باعتبار الطريقة التي سار عليها ولا مشاحة فيها ، والحكم بخطأ أحدهما غير سليم.
كانت هذه (بعض) الأخطاء التي وقع فيها الكاتب في مقالته ، أوردناها من باب المثال لا الحصر ؛ لنبيّن حجم المجازفة التي يقع فيها هؤلاء دون تمحيص منهم أو تحقيق.فهؤلاء العلماء - الذين ذكرناهم - قالوا خلاف قوله ، وهم أئمة في اللغة وعرب أعلام ، فكيف يجرؤ أحدنا على وصم هذه الألفاظ بخلط العوام ، وهو ليس بإمام في اللغة ؟ وكيف يحسن بنا القول عن هؤلاء أنهم عوام يخلطون ؟! فهل يعقل أن هؤلاء العرب الأعلام من أئمة اللغة عوام ، والأستاذ نظام الدين المعاصر هو الضليع باللغة ؟؟
وفي الختام ، يجدر بنا التنبيه إلى أمور :
الأمر الأول: إن أكثر من تمسك بالمدرسة البصرية العجم ، وذلك بسبب غرابة اللغة عنهم ، فأجروها مجرى القواعد ، ليسهل الحكم عليها. ولم تعجبهم المدرسة الكوفية لاعتمادها على السماع ، وهو أمر لا يستسيغه الأعجمي ، كونه لا يألفه ، ولا طاقة له بالإحاطة به.
الأمر الثاني: إن ميل البصريين إلى التقعيد أثمر عن إنشائهم لعلوم أخرى في اللغة ، لم تكن معروفة في الماضي ولا متداولة بين الناس ولا مذكورة في كتب الأعلام ، وذلك كعلم النحو ، وعلم البلاغة .
ويعتبر الكثيرون أن عبد القاهر الجرجاني هو مؤسس علم البلاغة ، أو أحد المؤسسين له على أقل تقدير له. وهذا الرجل أعجمي ، وتتلمذ على يد أبي علي الفارسي وسيبويه والهمداني. وقد برع هؤلاء في استقراء اللغة وإجرائها طرداً على القواعد ، فقام عبد القاهر بوضع قواعد تؤسس لعلم البلاغة.
وهو أشعري العقيدة ، وأسّس علمه بناء على ما يعتقده ، فقال بجواز كذا وعدم جواز كذا ، لينصر مذهبه في تأويل الصفات ، وليس له به إلا الظن ، ولم نسمع عن أحد من أهل اللغة من أشار إلى ما أشار إليه من قيود وقواعد ، أو ذكره من قبله.
وقد طبّل الأشاعرة كثيراً لهذه الرجل لنصرته مذهبهم ، واعتبروه أفصح الناس باللغة ، علماً أنه أعجمي ـ وتتلمذ على أيدي العجم ، وولد وعاش ومات في جرجان ، ولم ينتقل منها أبداً ، وبالتالي لم ينبغ في السماع لعدم اختلاطه بسائر القبائل ، وبالتالي لم يتمكن من الاطلاع على لغات العرب وضروب الفصاحة في كلامهم.
والجدير بالذكر ، أن الغلبة في النحو كانت للمدرسة البصرية ، وكل ما نتعلمه اليوم من النحو ، إنما هو من نتاج المدرسة البصرية لا الكوفية .
أما في اللغة ، (ففي رأيي الشخصي) قد نبغ الكوفيون وتفوّقوا على البصريين ، لأنهم توسعوا في الأخذ بالسماع ، فقبلوا كثيراً مما اعتبره البصريون شاذاً ، فضيقوا على أنفسهم ، ولم يحتملوا ما احتملته ألسنة العرب.
لذلك ، فإن من الأخلق بمن يريد نصرة مدرسة أو مذهب أن يقول: (هذا صواب وهذا خطأ على رأي مدرسة كذا أو مذهب كذا أو لغة كذا) ، لا على الإطلاق ، حتى لا يوهم المتلقن أن لا رأي آخر غيره. وهذا أصدق للكاتب ، وأثرى لحقائق اللغة ، وأنصف لعلمائها ، وأوسع للناطقين بها.
الأمر الثالث: إن إجماع أهل اللغة كإجماع أهل الفقه والعلم ، فإجماعهم على جواز كلمة في عصر من العصور هو إشعار بقبول اللغة لها ، ويشير إلى دليلٍ - جليٍّ أو خفيٍّ - على صحة هذا القبول.
ومتى قبِلت اللغة كلمة أو وزناً أو صرفاً واستقرت عليه واستعمله أهلها ، أصبح منها ، فلا اعتبار لمن يعارض من بعد ذلك ، ولا يُخرم بمعارضته الإجماع .
وقد أدخل العرب إلى لغتهم كثيراً من الألفاظ الفارسية وألحقوها بالصيغ والأوزان العربية لتأخذ شكل اللفظ العربي ، فأصبحت من اللغة العربية ، وإن لم تكن موجودة فيها قبل ذلك.
وقبول اللغة لبعض ما جدّ وشذّ عن الأقيسة وخرج عن القاعدة يدل على استيعاب اللغة ، ومرونتها ، وقابليتها لتجديد نفسها لمواكبة المستحدثات ، وهذا من أكبر عوامل قوتها وصمودها عبر الأزمان في وجه اللغات الأخرى.
الأمر الرابع: إن من المعروف أن أفصح العرب قريش ، ونقل ابن فارس في كتاب (الصاحبي في فقه اللغة 28/1) عن اسماعيل بن أبي عبيد الله ، أنه قال : " أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالهم، أن قريشاً أفصح العرب ألسنة، وأصفاهم لغة ".
والأفصح يفيد أن هناك ما هو دونه في الفصاحة ، وهذا ما اتفق عليه أئمة اللغة ، أن للفصاحة مراتب ، وأن ما هو دون الأفصح يبقى فصيحاً ، كما قد يكون مذموماً أو فاحشاً أو شاذاً أو غريباً عند العرب فيخرج عن حد الفصاحة.
ومن المعلوم أن للقبائل لغات شتى ، واختلاف اللغات بينها توجب اختلاف مراتب الفصاحة ، وهذا ما يوجب تعدد الصحة في اللغة مع اختلاف مراتب الفصاحة ، فنقول عن لفظين: كلاهما صحيح ولكن كذا أفصح من كذا.
قال الخليل بن أحمد: شرِب شُرباً وشَرباً وشِرباً بضم وفتح وكسر الشين (العين 256/6).
وقال الفراء: يقال العَفو والعُفو والعِفو بضم وفتح وكسر العين (إصلاح المنطق 69/1) ، وقال: يقال بُرقُع وبُرقًع بضم القاف وفتحها .
وقال أبو عبيد: يقال قُطب الرحى وقَطب الرحى وقِطب الرحى بضم القاف وفتحها وكسرها. ويقال: السُخْط والسَخَط ، والرُهْب والرَهَب، والعُرْب والعَرَب.
وقال ابن فارس: تقع الزجاج في ثلاث لغات بالضم وبالفتح وبالكسر .
وذكر عن ما فيه لغتان وأكثر إلا أن إحدى اللغات أفصح ، نحو بغداذ وبغداد، فقال: كلها صحيحة إلا أن بغداد أصح وأفصح.
والحصاد بالكسر والحصاد بالفتح صحيح فصيح ، وشُجعان وشِجعان صحيح بضم الشين وكسرها.
وقال الفراء: " نَستعين - بالفتح - هي لغة قريش ، ونِستعين - بالكسر - هي لغة أسد " ، ومعلوم أن القبيلتين من أفصح العرب.
وفي لغة نجد: ضلَلت ضلالاً ، وفي لغة أهل العالية: ضلِلت ضلالاً.
وقبيلة هذيل تقول أتوته بمعنى أتيته ، وهو صحيح ، إلا أنه دون مرتبة الفصيح المشهور.
وقبيلة طيء تحوّل كل كلمة على وزن فَعِل (بكسر العين) مقصوراً إلى فَعَل (بفتح العين ).
وقالت العرب مسكِن (بكسر الكاف)، وقال أهل الحجاز مسكَن (بفتح الكاف).
ويقال: مقبض السيف بفتح الباب وكسرها.
ويقولون: طمَثت المرأة وطمِثت المرأة ، ويقولون: وطهَرت المرأة وطهُرت المرأة ، ويقولون: شمَمت شماً ، وشمِمت شماً.
ذكر ذلك ابن السكيت في (إصلاح المنطق) ، وهو يشير إلى اختلاف اللغات بين القبائل ، وتعدد الصحيح مع اختلاف مراتب الفصيح، وهو ما أقر به أئمة اللغة.
فلا يمكننا الحكم بخطأ لفظ إذا درج على لسان قبائل من العرب ، ولا يملك أحد أن يحكم بخطأ لغات العرب لدنوها عن مرتبة الفصيح. وقبل أن يحكم بالصواب والخطأ ، ينبغي عليه أن يدرك الفرق بين الفصيح والأفصح ، وبين الصحيح والفصيح.
قال ابن جني: " فإذا كان الأمر في اللغة المعوّل عليها هكذا ، وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها ، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها ، إلّا أن إنساناً لو استعملها لم يكن مخطئاً لكلام العرب ، لكنه كان يكون مخطئاً لأجود اللغتين. فأمَّا إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه، غير منعيّ عليه. وكذلك إن قال: يقول على قياس من لغته كذا كذا ، ويقول على مذهب من قال كذا كذا. وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغةٍ من لغات العرب مصيب غير مخطئ ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه " (الخصائص 14/2).
أفلا يتأمل هؤلاء الكُتّاب قول إمام النحاة ابن جنّي ، قبل إطلاق العنان لأنفسهم في الحكم على لغات العرب المختلفة ، ووصمها بالصحة والخطأ دون تمييز أو تمحيص ؟
الأمر الخامس: إن هذه المباحث التي تتكلم عن الصواب والخطأ في اللغة والاهتمام بها ، إن هي إلا محاولة للانتصار لمدرسة من المدارس أو مذهب من المذاهب ، وتحمل - في بعض الأحيان - في طابعها ترفاً لسانياً ورفاهية لغوية لا يحتاجها الناطق في هذا الزمان .
بل إنها في كثير من الأحيان ، لا تخرج عن كونها قضايا تراثية متعلقة بألفاظ مهجورة تجاوزها الزمان . وفات أولئك أن اللفظ يستمد قوته وحضوره من كثرة استعمال البيئة له ، وما هُجِر من الألفاظ لا تدع الحاجة إلى استعماله وإن كان يعد استعماله في الماضي ضرباً من ضروب البلاغة . فإذا كان الغرض من البلاغة تبيين المعاني ومطابقة الكلام لمقتضى حال الخطاب ، علمنا أن هجر الألفاظ يُفقدها قوتها في تبيين المعاني وتوصيلها للسامعين ، وبالتالي قد يفوّت عليها قدراً كبيراً من الفصاحة التي تميزت به عندما كان اللفظ مشهوراً ، وحاضراً في الأفواه والأذهان ويساغ استعماله. ولو أتانا في العصر الحالي رجل من العرب القدامى ، وتكلّم بكلام جزلٍ بليغٍ ، لعدّه الناس شاذاً وغامضاً يصعب فهمه ، ولا يكاد الناس يدركون فحوى الخطاب .
ولا يُفهَم من قولنا أننا نصوّب ما هو خطأ ، أو نخطّئ ما هو صواب في اللغة ، فإن ذلك يؤدي إلى فسادها ثم هلاكها ، ووجب إصلاح ما فسد من المنطق إذا حاد عن قواعد اللغة وحقائقها ، ولكن لا يمكننا إصلاح منطق الناس لمجافاته ضروب البلاغة والفصاحة التي ألفها العرب في الماضي. فإن قواعد اللغة ثابتة مستقرة ، أما ضروب الفصاحة فتتغير ، ومبناها على ألسنة البشر وصلاح سماعهم وحسن فهمهم لما فصح من الألفاظ. وللذوق العام مدخل لطيف ودور عظيم في هذا ، فتأمل !
ولو أردنا تطبيق البلاغة - كما عهدها العرب قديماً - على كلام الناس اليوم لضيّقنا عليهم ، ولأصبح استعمال اللغة فيما بيننا عسيراً موحشاً ، ولما نجا أحد من النقد والهجاء ولا حتى أصحاب هذه المقالات ، فعلى سبيل المثال ؛ لو تأملنا عنوان مقالة الأستاذ نظام الدين ، فقد يكون أفصح لو كان: (العوام تخلط بين ألفاظ الكلام) ، بدون حرف (ما) الذي توسّط كلمتي (تخلط) و (بين) ، فإن مجيء الحرف (ما) بعد فعل (خلط) غريب وليس بفصيح ، ولم تكن العرب تعتاده ، فإنهم كانوا يقولون: (خلط كذا بكذا) ، أو : (خلط بين كذا وكذا) ، أما قولنا: (خلط ما بين كذا) فلم يرد عن فصحائهم !
فإن كان هؤلاء الكُتّاب يعتبرون مجرد الحيد عن الفصاحة فساداً في المنطق ، فهلاّ أصلحوا منطقهم قبل إصلاح منطق الآخرين ، فضلاً عن إصلاح لغات العرب ؟
كتبه / أبو يحيى الخنفري
المفضلات