وهذا الموضوع قد أكثر الطاعنون منه , بناء على القاعدة الجدلية أن التناقض علامة بطلان المذهب(673)، ولكن كل ما زعموا فيه التناقض, فهو محض افتراء أو جهل ، وقد تكلم العلماء قديما على هذا النوع من الطعون, وجمعوا كل ما قيل في ذلك, ورتبوها على حسب ترتيب سور المصحف وأجابوا على كل ما قيل في ذلك بل وعلى مالم يقل مما يُظن أن فيه إشكالا أو تناقضا، ومن هذه الكتب المؤلفة في هذا الفن :
1-"كتاب تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة الدينوري(674)،وهو أقدم كتاب وصل إلينا.
2-"كتاب المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير" له أيضا(675) .
3-"أضواء على متشابهات القرآن" ، لخليل ياسين(676) ،في مجلدين .
4-"باهر القرآن في معاني مشكل القرآن" لبيان الحق النيسابوري(677)،في أربعة مجلدات.
5-"وضح البرهان في مشكلات القرآن" له أيضا(678) ،في مجلدين.
6-"تفسير آيات أَشِْكَلتْ" لابن تيمية(679) ، في جزأين .
8-"دفع إيهام الاضطراب"، لمحمد الأمين الشنقيطي(680) .
9-"مشكلات القرآن", لمحمد أنور شاه الكشميري(681) .
10-"الروض الريان في أسئلة القرآن" ، لشرف الدين بن ريان(682).
وغير ذلك من الكتب الكثيرة ، التي لو جُمِعَ كل ما فيها لكان مجلدات كثيرة ,وإنما قَصَدتُ بذكر هذه الكتب بيان أن هذا الطعن قد قًُِتلَ بحثا, وأجيب عن كل ما قد قيل أو يمكن أن يقال فيه, ومع هذا لا زال أعداء الدين ينعقون بهذه الطعون ويرددونها ، مما يدلك على عدم حرصهم على اتباع الحق, أو إنما القصد هو إضلال بسطاء المسلمين ممن لم يقرؤوا هذه الكتب ، والله المستعان.
يقول جولدتسيهر(683):(من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبا عقيديا(684)موحدا متجانسا وخاليا من المتناقضات ، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهمية وخطرا، إلا آثار عامة نجد فيها –إذا بحثناها في تفاصيلها-أحيانا تعاليماً متناقضة)(685).
وسنذكر إن شاء الله في هذا المبحث بعض ما ذكر من شبهات في هذا العصر(686) والجواب عليها بإذن الله .
الطائفة الأولي : طعون ذُكرت في كتاب "رد مفتريات على الإسلام" ، لعبد الجليل شلبي ، ورد فيه على رسالتين تطعنان في القرآن ؛ الأولى رسالة في ست ورقات منسوبة إلى المجلس القبطي بالإسكندرية, وموقعة باسم الأسقف العام, ورئيس المجلس, والنائب العام البابوي تيموثاوس(687) ، والطعون التي ذكروها كالتالي :
1-في سورة يونس :( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ... ( [يونس:15] , وفي سورة النحل : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قل نزله روح القدس من ربك بالحق ( [النحل:101].
ففي الآية الأولى طُلب منه التبديل فرفض , والآية الثانية تم التبديل(688) .
والجواب(689) :
أن التبديل في الآية الأولىكان بطلبٍ من الكفار لرسوله ( أن يأتي بقرآن جديد أو يبدل هذا القرآن ورسول الله ( يقول لا أستطيع ، فذلك كلام الله ينسخ منه سبحانه ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وأنا أتبع ما يوحى إليَّ نسخا أو إثباتا .
والآية الثانية تذكر أن الله سبحانه إذا نسخ حكما بحكم قال الكفار لمحمد : أنت مفتر في هذا القرآن؛ لأنك غيرت حكماً قررته من قبل ، ثم تقرر الآية التالية أن ذلك من الله تعالى ، نزله الله بواسطة جبريل روح القدس ،ومحمد لا يغير .
فأي تناقض بين الآيتين ! كلتاهما تثبت أن القرآن من عند الله, وأن محمداً ( لا يستطيع أن يغير منه شيئاً .
2- الآية 106من سورة البقرة تُناقِضُ الآية 27 من سورة الكهف ، والآية في سورة البقرة هي : ( مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ( [البقرة:106]والآية في سورة الكهف :( واتل ما أُيوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته.. ( [الكهف:27].
فالآية الثانية تخبر أن كلمات الله لا تبدل ،والأولى تخبر أنها تنسخ وتنسى،والنسخ نوع تبديل(690).
الجواب(691) :
الآية الأولى تتحدث عن نسخ الأحكام وتغيير حكم بآخر ، وهذا أمر لا بد منه في حال أمة جاهلية نقلها الإسلام تدريجيا إلى حال جديدة متكاملة ، والآية الثانية تذكر أنه لا أحد غير الله يستطيع أن يبدل كلماته ، أو يرد حكما أنزله سبحانه ، والطاعنون لم يفهموا النص فظنوه تناقضا ، وكلتا الآيتين توضح أن الله وحده يمحو ما يشاء ويثبت ، تماما كالآية السابقة قلتُ:التبديل يطلق على تبديل الأحكام ,وهذا سائغ ، ويطلق على تبديل الأخبار, وهذا الذي لا يمكن في القرآن ، فكل آية لها مورد(692)، فالنسخ والتبديل يكونان في الأحكام لا الأخبار.
3- الآية 9 من سورة الحجر تناقض الآية 39 من سورة الرعد:
وآية الحجر هي :( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ( [الحجر:9] ، وآية الرعد هي : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.. ( [الرعد:39]،يعني كيف يجتمع الحفظ مع المحو(693) ؟.
الجواب(694) :
آية الحجر تصف القرآن أنه تنـزيل من الله تعالى, وأن الله حافظه من الزوال والتحريف ، وصدق الله وصدق قرآنه ، فالمسلمون بعد أربعة عشر قرنا يقرأون القرآن غضا طريا صريحا صحيحا كما أنزله الله تعالى ، وكما قرأه محمد ( على أصحابه ، فأين كتاب موسى وأين وصاياه ، وأين إنجيل عيسى ؟ هذه كتب لم يحفظها الله تعالى فذهبت مع الأيام ، والقرآن لم يضع منه شيء ولن يضيع.
وأما آية الرعد تذكر أن الله يمحو أحكاما ويثبت أخرى ، ويمحو مقادير ويثبت غيرها، أفي هذا تضارب ؟
قلتُ: آية الرعد ليست في القرآن, بل المراد منها الصحف التي بيد الملائكة التي فيها مقادير الخلق ، فإن الله تعالى يغيرها حسب مشيئته وحكمته ،واختلف العلماء في ذلك ولكن كل الخلاف دائر في باب القدر(695) ،ولو سلمنا أن آية الرعد في القرآن ، فإن المقصود بالمحو والإثبات هو في وقت حياة النبي ( , وأما بعد اكتمال القرآن وموت النبي ( ,فإن الله يحفظ القرآن ويصونه.
4- السجدة آية 5 - تناقض المعارج آية (4 ):
وآية السجدة هي :( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( [السجدة:4]،وآية المعارج هي :( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( [المعارج:4]،يعني أن ألف سنة في الآية تناقض خمسين ألف سنة في الآية الأخرى(696) .


يتبع