بسم الله الرحمن الرحيم

نباهة
المؤمن
وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين متفق عليه .


--------------------------------------------------------------------------------


الله أكبر! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين لا يلدغُ خبر بالرفع، وروي : لا يلدغِ المؤمن نهي مثل : لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ ولا منافاة بين الروايتين، فإن النهي يأتي متضمنا للنفي فيأتي أحيانا النهي بصيغة النفي ، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، المؤمن الذي من ثمرات إيمانه الحزم والفطنة لا يلدغ من جحر مرتين بل يكون فطنا يأخذ من تجاربه دروسا، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بلفظه، وقال باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .

وذكر أثرا عن معاوية - رضي الله عنه -: " الحكيم أو الحليم ذو التجربة، أو لا يكون الحكيم إلا ذو تجربة " . فأشار البخاري إلى أن هذا الحديث يتضمن أن
المؤمن ينتفع بالتجربة ولا يكون غافلا لا يتعظ بالتجارب ولا يستفيد من التجارب، فالتجارب مصدر من مصادر - يعني - العلم ومن مصادر الحكمة، والعقل - يعني: ينمو العقل بالتجارب، يقولون في المثل الدارج " اسأل مجرب ولا تسأل طبيب المجرب " يصير عنده خبرة.

هذا الحديث جاء في السيرة - سيرة ابن هشام - أنه ورد من الرسول، وأن الرسول قاله على سبب أن أحد المشركين واسمه: أبو عزة الجمحي، أسر في بدر، فتلطف وتعطف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذكر أنه يعني له عيال وأنه، يعني: تضعف وتعطف الرسول - عليه الصلاة والسلام - فأطلقه، يعني أنه أطلقه ومن عليه مجانا بخلاف بقية الأسرى، فإنه قد - يعني: لم يطلقهم إلا بفداء، وعاهد النبي أن لا يقاتله، هذا هو الشاهد ثم أسر في أحد فأراد أن - يعني - أيضا أن يعاود الرسول مرة ثانية فقال - عليه الصلاة والسلام - لا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين .

جاء في القصة أنت ... هناك في مكة .. وتقول - يعني - خدعت محمد، يعني مرتين، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله، فقال هذه المقولة التي صارت مثلا لا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين . وهذا يمكن أن ينتفع به الإنسان في نفسه، فإذا وقع الإنسان في مخالفة تركا لواجب أو فعلا لمحذور بسبب من الأسباب فإن الحزم يقتضي أن يتوب ولا يعود ويشوف من أين أوتي فيأخذ حذره فلا يعاود الذلة ؛ لأن الذلة بمثابة لدغة الحية، هذا تطبيق لهذا الحديث مع الإنسان نفسه - يطبقه مع نفسه - فلا يقع في الذلة مرة أخرى بل يحذر من الطريق أو السبب الذي ورطه أولا أو وقع بسببه في المخالفة فيقول لنفسه : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين لن أعود يعني إلى هذا الأمر الذي أفضى بي إلى كذا، وهذا طبقه في أمورك كبيرة وصغيرة، يعني إذا أردنا أن نطبقه على - يعني - جزئية جزئية، يعني الإنسان من عادته أنه دائما - ولله الحمد - يقوم يصلي الفجر، وفي مرة استدرجه بعض المجالس مع بعض الناس فسهر طويلا فثقل عن صلاة الفجر، هنا يمكن أن يقول لنفسه خلاص لن يتكرر هذا الموقف لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وهكذا، وقس على هذا.

وهكذا أيضا في معاملة الناس، يعني: إنسان صاحبته فكان سببا في تورطك، خدعك إما في أمر ديني، يعني: غرك وأوقعك في معصية مخالفة، أو في أمر دنيوي، يعني كان سببا في أنه ورطك في معاملة جرت عليك - يعني - ذهاب مالك أو ذهاب شيء من مالك بسبب خيانته أو بسبب - يعني - سوء تصرفه فتقول : لا يلدغ
المؤمن خلاص يأتي إليك مرة أخرى، تعال، تقل : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين خلاص، فهذا - يعني هذا الحديث من جوامع الكلم، ومن الأمثال أصبح مثلا سائرا لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين والرسول ربط بالمؤمن إشارة إلى أن المؤمن كيس فطن، ما هو بغبي كما يقال يلعب عليه، لا، وقال عمر - رضي الله عنه -: " لست بالخب وما يخدعني الخب " المؤمن يكون حذرا يكون فطنا يكون حازما.

والإيمان هو من الإيمان بالله ورسوله، هو من أعظم مصادر الحزم ؛ لأن الإيمان الحق يقوم على العلم، على البصيرة، على - يعني: الفرقان بين الأشياء، يقوم على الاعتبار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ هذا حث على - اعتبروا يا أولي الأبصار - الإيمان، يوجب الاعتبار فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ الاعتبار هو من أدلة القياسيين، من أدلة القياس، يعني: فيستفيد من السنن الكونية والوقائع، يستفيد من التجارب، يعني كثير من الأمور - يعني - تعرف ويوصل إليها بالتجارب ؛ لأن الله جعل في هذا الوجود سننا، وجعل هناك أسبابا ومسببات.

لا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين يلاحظ: من جحر، وفي رواية: واحد، يعني: نوع، من ضرب المثل، هذا فيه مثل من جحر؛ الجحر المعروف الذي تسكنه بعض الحشرات أو الحيات أو العقارب، الله أكبر ، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين يعني الواحد أدخل يده في جحر لحاجة يريد يخرج شيئا أو يعبث لدغ، لدغته حية أو حشرة، الحازم الفطن يروح مرة ثانية يدخل يده ؟ ! لا، خلاص لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين عرف أن هذا مسكن للمؤذيات، فالمؤمن لا - يعني - يكرر الغلطة، لا يكرر الغلطة سواء في أمر دينه أو أمر دنياه ؛ بل يكون حازما حذرا يحذر من مداخل الشيطان، يحذر من الشيطان فإن الشيطان يزين للإنسان الأمور ويورطه مرة بعد مرة ؛ لكن المؤمن لا، ولهذا بعض الموفقين - يعني - إذا وقع في معصية أوجبت له الإنابة وتوبة وندم فتكون هذه المعصية أعطته درسا فعرف بها نفسه، فعرف أنه لا يأمن على نفسه الزلل فيأخذ نفسه بالحزم والحيطة والحذر.

هذا في باب الدين كما قلنا في البداية، هذا - يعني - يمكن أن يطبقه الإنسان أو أن يعامل به نفسه، فلا تخدعه نفسه الأمارة بالسوء ولا الشيطان، ولا يخدعه أيضا أحد من شياطين الإنس ؛ بل إذا وقع منه غلطة أخذ منها درسا بحيث لا يتكرر ولا يعاود هذا الطريق ولا يعاود هذا السبب الذي أوقعه فيما أوقعه فيه، فجعل الرسول اللدغ هذا عنوانا عن الغلط، كما قلنا: إن فيه تشبيها، فصارت كل غلطة بمثابة اللدغة، والجحر هذا هو المصدر، فالحازم لا يكرر الغلط ولا يعاود السبب والمصدر.

فهذا الحديث من جوامع الكلم ومن الأمثال السيارة ومن - يعني - الكلام الحكيم، والذي - من راعاه واستعمله في نفسه واستعمله مع غيره سلم من شر كثير، وعندكم الشيخ السعدي - رحمه الله - قد - يعني - أبدع وأجاد في شرحه لهذه الأحاديث بطريقته المبسطة السهلة المعبرة عن معنى الحديث وتطبيقه على الواقع


شرح الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك
جامع شيخ الاسلام ابن تيمية