اليهودية.. من دين سماوي إلى أكذوبة طائفية

آخـــر الــمــواضــيــع

اليهودية.. من دين سماوي إلى أكذوبة طائفية

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: اليهودية.. من دين سماوي إلى أكذوبة طائفية

  1. #1
    عضو
    الحالة : ابو غسان غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 5223
    تاريخ التسجيل : Nov 2009
    الجنـس : رجل
    المشاركات : 3,177
    المذهب : سني
    التقييم : 52

     

     

    افتراضي اليهودية.. من دين سماوي إلى أكذوبة طائفية


    اليهودية ديانة سماوية توحيدية بالأساس. تأسست من رسالة نبي الله موسى –عليه الصلاة والسلام. ونظرا لكونه بعث في بني إسرائيل، وكانت رسالته تقضي بإخراجهم من مصر وقيادتهم لدخول الأرض المقدسة (فلسطين)، فإنَّ رسالة موسى كانت رسالة خاصَّةً ببني إسرائيل. وقد كان النَّبيُّ قَبَل بِعثَةِ الرَّسولِ محمَّدٍ –صلى الله عليه وسلم- يُرسَلُ لقومه خَاصةً، فكانت شَرِيعَةُ موسى مُختَصَّةٌ ببني إسرائيل.


    بنو إسرائيل:

    "بنو إسرائيل" وَصفٌ يُشيرُ لذُرِّيَّةِ ونَسلِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم –عليهم الصلاة والسلام جميعا، من أبنائه الاثنى عشر، والذين عُرِفُوا بالأسباط. ويَرِدُ ذِكرُ الأَسباطِ في القرآن الكريم تاليا لذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب دوما. ولمـَّا استسقى موسى ربَّه وأمره أن يضرب بعصاه الحجر (انفَجَرَت مِنهُ اثنَتَا عَشرَةَ)، ليشرب كل فصيل منهم من مورده الخاص[1]. كما أنَّ الله تعالى أقام على بني إسرائيل: (اثنَى عَشَرَ نَقِيبًا) للقيام بواجبات الدعوة والدِّين وحمل قومهم عليه[2].

    أما "إسرائيل" فهو لَقَبٌ ليَعقُوب -عليه الصلاة والسلام. يقول تعالى: ((كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسرَائِيلُ عَلَى نَفسِهِ مِن قَبلِ أَن تُنَزَّلَ التَّورَاةُ قُل فَأتُوا بِالتَّورَاةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ))، آل عمران: 93. فإسرائيل هنا يعقوب.

    ويَشتَهِرُ بنو إسرائيل تاريخيا بالعبرانيين[3]، ويقال بأنَّ هذا نسبة لعبورهم مع موسى –عليه الصلاة والسلام- للبحر، ونجاتهم منه. وأيا يكن الأمر فإنَّ بني إسرائيل عاشوا عدة محطات في تاريخهم:
    •المحطة الأولى: منذ دخول يعقوب وبنيه مصر في زمن ولاية يوسف لملك مصر، وحتى ظهور فرعون.
    •المحطة الثانية: منذ تملك فرعون وحتى خروجهم من مصر وهلاك الطاغية.
    •المحطة الثالثة: منذ نجاتهم من فرعون وحتى وفاة موسى –عليه الصلاة والسلام.
    •المحطة الرابعة: منذ وفاة موسى وحتى قيام دولة داود وسليمان –عليهما الصلاة والسلام. (عهد القضاة)
    •المحطة الخامسة: منذ قيام دولة بني إسرائيل وحتى زوال ملكهم. (عهد الملوك)
    •المحطة السادسة: وهي محطة السبي والتشرد والاحتلال، والتي دامت قرونا من الزمن.

    ويذكر أن مُلَكَ بني إسرائيل استَمرَّ لقُرابَةِ 244 عاما، هي فترة استقلالهم وتمكينهم في الأرض؛ ثمَّ تفرقوا وتنازعوا وغلب عليهم الأعداء فسُلِطُّوا عليهم. وكان معظم تحركهم تاريخيا بين مصر وفلسطين والشام والعراق. حيث كانت هذه المنطقة هي موطن إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- ومهاجره، وأبنائه من بعده. وقد مثلت الأرض المباركة (فلسطين) في الديانات جميعا، بما فيها اليهودية، موعودا إلهيا لعباده المؤمنين، وقبلة لهم[4].

    نبيُّ اللهِ مُوسَى:

    عاش بنو إسرائيل بعد يوسف –عليه الصلاة والسلام- بمصر قرونا من الزمن، وهم مختلطون بأهل مصر الأصليين. ولمـَّا حكم فرعون مصر اضطهد بني إسرائيل، وأوغل في تعذيبهم؛ فقد كانوا قوما مُوحِّدين، وكان قد نَصَّبَ نفسه مَلِكًا وإلَهًا ورَبًا لأهل مصر أجمعين، ولم يدخُل بنو إسرائيل في عقيدته وديانته.

    في هذه الأثناء بعث الله تعالى موسى بن عمران –عليه الصلاة والسلام- نبيا مرسلا إلى فرعون بالتوحيد والعبودية لله. فتضاعف اضطهاد فرعون وقومه لبني إسرائيل: ((وقَالَ المـَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وقَومَهُ لِيُفسِدُوا فِي الأَرضِ ويَذَرَكَ وآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبنَاءَهُم ونَستَحيِي نِسَاءَهُم وإِنَّا فَوقَهُم قَاهِرُونَ))، الأعراف: 127.

    وقد بدأ شأن موسى قبيل مولده بما أوحاه الله لأُمِّه في شَأنِه بعد ولادته. وتربَّى في قصر فرعون منذ صغره، وكانت أُمُّه حاضنته طيلة فترة طفولته. وبعد بلوغه أَشُدَّه ومعرفته بوضع قومه في مصر ظهر تعاطفه معهم. ونتيجة لقتله رجلا قبطيا على إثر شجار وقع بينه وبين رجل من بني إسرائيل، فوكزه موسى على إثره وقضى عليه، خَرَجَ مِن مصر خائفا، ولجَأَ إلى أهل مَدين. وهناك تزوج بها وأقام عشر سنوات، توجه بعدها إلى مصر عائدا. وفي طريقه لمصر وعلى جَبلِ الطُّورِ خَاطَبَه الله تعالى، وكلَّفَه بمهمَّةِ الرِّسالة والدَّعوةِ لفرعون وقومه، ومَنَحَه أَخَاه هارون سَندًا له في حَملِ الرسالة.

    سعى موسى –عليه الصلاة والسلام- في دعوة فرعون، ونُصحِهِ وتَبلِيغِهِ حُجَجَ الله. وأَظهَرَ لفرعون وقَومِه الآياتِ والمعجزاتِ المتعدِّدَةِ، وبرغم ذلك جَحَدُوها وكَفرُوا بها. ونتيجة اشتداد وَطأَةِ التَّعذيبِ والإجرامِ الذي مارسه فرعون وقَومَه على بني إسرائيل أَمَرَ الله تعالى موسى أن يخرج بني إسرائيل باتجاه الأرض المقدسة، وفي طريق خروجهم تبعهم فرعون فحدثت معجزة انفلاق البحر وغَرَقِ فِرعون وجُنده.

    عقب نجاتهم، تمرَّدَ بنو إسرائيل على موسى، وتعنَّتُوا معه، وتلمَّسُوا عِبَادَة إِلَهٍ مَادِيٍّ، ولم يَغِب موسى عنهم عند ذهَابِه إلى الطُّور حتى عَبَدَ بنو إسرائيل العِجلَ الذي صَنَعَه لهم السَّامري.

    ولما أَمَرهم موسى بدُخُولِ فِلسطِين امتنعوا عليه، مُعتذِرِين بوجُودِ قومٍ جبَّارين فيها، ورفضوا القتال معه. فكُتِبَت عليهم سنواتُ التيه الأَربعين. وفي هذه الفترة توفي موسى –عليه الصلاة والسلام، ودُفِن خَارجَ أَرضِ فلسطين.

    الكتاب المقدس.. التوراة:

    تمثل "التوراة" الكتاب الهادي الذي أنزله الله تعالى على موسى -عليه الصلاة والسلام، ليبلغه قومه. قال تعالى: ((إِنَّا أَنزَلنَا التَّورَاةَ فِيهَا هُدًى ونُورٌ يَحكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا والرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحبَارُ بِمَا استُحفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وكَانُوا عَلَيهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخشَوُا النَّاسَ واخشَونِ ولَا تَشتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ومَن لَم يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُم الكَافِرُونَ))، المائدة: 44.

    وقد تولى الله تعالى كتابة "التوراة" بيده لكليمه موسى –عليه الصلاة والسلام. ثمَّ أنزَلَها عليه في طُورِ سيناء مكتوبة. قال تعالى: ((وكَتَبنَا لَهُ فِي الأَلوَاحِ مِن كُلِّ شَيءٍ مَوعِظَةً وتَفصِيلًا لِكُلِّ شَيءٍ فَخُذهَا بِقُوَّةٍ وأمُر قَومَكَ يَأخُذُوا بِأَحسَنِهَا سَأُرِيكُم دَارَ الفَاسِقِينَ))، الأعراف: 145.

    والألواح جمع لوح، وهو كُلُّ صفيحة عريضة من خشب أو غيره. فهي صفائح مادية ظاهرة مَكتُوبٌ عليها بِلُغَةِ موسى وقَومِه. وفي القرآن الكريم أن موسى لمـَّا رجع إلى قومه غضبان أَسِفًا، وراءهم يعبدون العجل ألقى الألواح (الأعراف: 150). ((ولَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلوَاحَ وفِي نُسخَتِهَا هُدًى ورَحمَةٌ لِلَّذِينَ هُم لِرَبِّهِم يَرهَبُونَ))، الأعراف: 154.

    وفي الحديث أنه: (احتجَّ آدمُ ومُوسى، فقالَ موسَى: يا آدمُ أنتَ أبونا خيَّبتَنا وأخرجتَنا منَ الجنَّةِ! فقالَ لَهُ آدمُ: أنتَ موسَى.. اصطفاكَ اللَّهُ بِكَلامِهِ، وخطَّ لَكَ بيدِهِ، أتلُومُني على أَمرٍ قدَّرَهُ اللَّهُ عليَّ قبلَ أن يخلُقَني بأَربَعينَ سَنةً؟)، وفي رواية: (كَتَبَ لَكَ التَّوراةَ بيدِهِ)[5].

    لذلك قال ابن تيمية: إنَّ اللَّهَ كَتَبَ لموسى التَّوراةَ بيدِهِ وأَنزَلها مَكتُوبةً، وأَنَّ هذا ثَبَتَ بالنَقلِ الصَحيح[6]. وقد حظيت التوراة بهذا الاهتمام كونها تضمنت عقائد وشرائع شاملة وصالحة للإنسانية في تلك الحقبة من التاريخ. لذلك حكى الله تعالى على لسان عيسى ابن مريم قوله لبني إسرائيل: ((ومُصَدِّقًا لِمَا بَينَ يَدَيَّ مِن التَّورَاةِ ولِأُحِلَّ لَكُم بَعضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيكُم وَجِئتُكُم بِآيَةٍ مِن رَّبِّكُم فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ))، آل عمران: 50.

    والتوراة هي ذاتها صُحُفِ موسى المـُشَارُ إليها في غَيرِ مَا مَوضِعٍ مِن القرآن الكريم. يقول تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبرَاهِيمَ ومُوسَى))، الأعلى: 18- 19. ويقول سبحانه: ((أَم لَم يُنَبَّأ بِمَا في صُحُفِ مُوسَى * وإِبرَاهِيمَ الَّذي وَفَّى))، النجم: 36- 37. فإنَّ الله تعالى أشار لما ينزله على رسله بالصحف، يقول تعالى: ((لَم يَكُن الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ والـمُشرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأتِيَهُمُ البَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِن اللَّهِ يَتلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ))، البيِّنَة: 1- 3. ولم يجعل اللهُ سبحانه احتكامَ بني إسرائيل إلَّا للتوراة، ولم يُثَنِّ مع التوراة غَيرَ الإِنجيلَ في جميعِ مَواطِن آيات القرآن الكريم.

    ويُقسِّمُ اليَهودُ موروثهم مِن النَّصِّ الدِّيني إلى قسمين:
    •التوراة: وفيها خمسة أسفار، وهي: سفر التكوين أو الخلق، وسفر الخروج، وسفر اللاويين، وسفر العدد، وسفر التثنية. ويُطلَقُ عليها جميعا اسم "أسفار موسى". وهي تحتوي على الشرائع والقوانين والشعائر والوصايا العشر التي أوصى الله بها موسى، كما تَضمُّ أخبَاراً تاريخية عن بني إسرائيل.
    •أسفار الأنبياء: وهي نوعان:

    أسفار الأنبياء الأولين أو المتقدمين، وهي: سفر يشوع (يوشع بن نون)، وسفر القضاة، وسفرا صموئيل الأول والثاني، وسفر الملوك الأول والثاني.

    وأسفار الأنبياء الآخرين أو المتأخرين، وهي: سفر أشعيا، وسفر إرميا، وسفر حزقيال، وسفر هوشع، وسفر يوئيل، وسفر عاموس، وسفر عوبديا، وسفر يونان (يونس)، وسفر ميخا، وسفر ناحوم، وسفر حَبَقوق، وسفر صَفَنيَا، وسفر حجَّى، وسفر زكريا، وسفر ملاخي.

    وهذا القسم يتَضمَّن ما وَقعَ لبني إسرائيل مِن أَحدَاثٍ بعد مَوتِ مُوسى، وحتَّى هَدمِ الهيكل المقدَّس. وهو يُغطِّي فَترَةً زَمَنِيَّةً تمتَدُّ بين سَنةِ 1300 ق. م. وسَنةِ 200 ق. م. تقريباً.

    ويضاف لذلك كتب الحكمة والأناشيد، وهي تجمع أسفارا مختلفة، تَتضمَّن رواياتٍ تاريخيةً وقَصَصيَّةً وإنشادية. وعددها ثلاثة عشر. وترتيب هذه الأسفار حسب ورودها في العهد القديم كما يلي: سفر راعوث، وسفرا أخبار الأيام الأول والثاني، وسفر عزرا، وسفر نحميا، وسفر إستير، وسفر أيوب، وسفر المزامير (مزامير داود)، وسفر الأمثال، وسفر الجامعة، وسفر نشيد الأنشاد، وسفر مراثي إرميا، وسفر دانيال. وهذه الأسفار معترفٌ بها لدى اليهود.

    ومن أهم كتب يهود "التلمود"، وهو عندهم في منزلة أهم بكثير من منزلة التوراة. وهو يَضُمُّ في ثناياه "المشنا" وهي رواياتٌ شَفهيَّةٌ تناقلها الحاخامات، حتَّى جمعها الحاخام يوضاس -سنة 150م- تحت عنوان "المشنا"، أي الشريعة المكررة. ثمَّ دوَّنَ الراباي يهوذا -سنة 216م- زيَادَات ورِوايَات شفهيَّةً أُخرَى. وشُرِحت "المشنا" في كتاب سمي "جمارا"، ومن "المشنا" و"الجمارا" تكوَّن "التلمود"، والذي يعتبره اليهود إيضاحا وتفسيرا للتوراة التي أُنزِلَت على موسى.

    في المقال القادم نذكر كيف تحول اليهود من أمة مختارة إلى جنس مغضوب عليه، وملعون على لسان أنبيائه؟ وكيف تحولت التوراة من كتاب رباني يهدي إلى كتاب مُحرَّفٍ تتخلله الأكاذيب والترهات؟



    [1] انظر: آية (60) من سورة البقرة.

    [2] انظر: آية (12) من سورة المائدة.

    [3] هناك جدل حول أصل التسمية بالعبرانية هل يعود لاسم رجل أم لوصف أناس عبروا من منطقة لأخرى مهاجرين، ونشأة هذه التسمية تاريخيا.

    [4] وذلك قبل أن ينسخ ذلك في شريعة الرسول محمد –صلى الله عليه وسلم.

    [5] مسلم، الرقم: 2652.

    [6] مجموع الفتاوى: ج12/520.





    «« توقيع ابو غسان »»

  2. #2
    عضو
    الحالة : ابو غسان غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 5223
    تاريخ التسجيل : Nov 2009
    الجنـس : رجل
    المشاركات : 3,177
    المذهب : سني
    التقييم : 52

     

     

    افتراضي


    أخبر الله تعالى في القرآن الكريم أنه اصطفى في مرحلة تاريخية بني إسرائيل، وفضلهم، وتفضلَّ عليهم بالنعم والخيرات، وجعل معظم النبوات التي جاءت بعد إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- في ذريتهم، كما أخبر في المقابل أنه غضب عليهم وسخطهم، وسلبهم النعم وأنزل عليهم العذاب الأليم، وجعلهم ملعونين على لسان أنبيائهم والناس من بعدهم! صورتان متضادتان ومتقابلتان. لكنهما لم تأتيا من عَبَثٍ –تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فإنَّ سنَّة الله في عباده التي لا تتبدَّل ولا تتخلَّف هي أنَّه ((لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِّعمَةً أَنعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم))، الأنفال: 53. فهو المنعِمُ ابتداءً، والمتفَضِّلُ أولًا، على عبادِه، فإن لم يُرَاعُوا حقَّ النِّعمَةِ ووَاجِبَ الفَضلِ سَلَبَهم ما أُعطُوا عِقابًا لهم.


    من ثمَّ فينبغي أن نعرِفَ ما الذي تَغَيَّرَ في بني إسرائيل، وما الذي حَدَثَ مِنهم، حتَّى غيَّرَ الله عليهم حُكمًا وحَالًا.

    التبديل مقابل التفضيل:

    في ثلاث آيات من سورة البقرة يذكر الله تعالى بنعمه عليهم: ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ))[1]، وفي اثنتين منها يصرح بتفضيلهم على أمم الأرض في زمانهم: ((وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ))[2]، وهذا التفضيلُ تمثَّلَ في أمرين: هدايتهم بالكتاب، واختيارهم لقيام الخلافة: ((ولَقَد آتَينَا بَنِي إِسرَائِيلَ الكِتَابَ والحُكمَ والنُّبُوَّةَ ورَزَقنَاهُم مِن الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلنَاهُم عَلَى العَالَمِينَ))، الجاثية: 16.

    فكان كَثيرٌ مِن الأَنبياءِ مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- مِنهم، وعليهم نزلت التوراة والزبور والإنجيل، وممَّا لم يُذكرُ لنا: ((ولَقَد آتَينَا مُوسَى الهُدَى وأَورَثنَا بَنِي إِسرَائِيلَ الكِتَابَ))، غافر: 53. وهيأ لهم الله تعالى أن يقيموا خلافة الإسلام على الأرض المباركة لتمتد إلى مشارق الأرض ومغاربها: ((وأَورَثنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرضِ ومَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكنَا فِيهَا وتَمَّت كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسنَى عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ودَمَّرنَا مَا كَانَ يَصنَعُ فِرعَونُ وقَومُهُ ومَا كَانُوا يَعرِشُونَ))، الأعراف: 137. وهكذا اجتمعت لهم إمامةُ الدِّين ورئاسَةُ الدُّنيا، بعد أن تحرروا من استعباد فرعون لهم: ((وإِذ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ يَا قَومِ اذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ جَعَلَ فِيكُم أَنبِيَاءَ وجَعَلَكُم مُلُوكًا وآتَاكُم مَا لَم يُؤتِ أَحَدًا مِن العَالَمِينَ))، المائدة: 20.

    لم تحدثنا الآيات القرآنية الكريمة شيئا كثيرا عن واقع بني إسرائيل في مصر، ولم تقصص علينا قصصهم هناك، لكنها أكدَّت على المعاناة الشديدة التي عانُوها تحت سُلطةِ فرعون وطُغيانِه وطُغيانِ قومه. فقد سامَهم فرعونُ وقومُه سوءَ العذاب، فكان يذَبِّحُ أبناءَهم ويَستَحيِي نساءَهم ((وفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِن رَّبِّكُم عَظِيمٌ))[3]. وهذه صورة من صور العذاب، وإلا فإنَّ تعبيدَ بني إسرائيل وجَعلَهم سُخرَةً لأَهلِ مِصر، وما يتبعُ ذلك مِن الضَّيمِ والأِذى، مثَّل صُورةً أُخرَى مِن العذاب. ((وإِذ قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ اذكُرُوا نِعمَةَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ أَنجَاكُم مِن آلِ فِرعَونَ يَسُومُونَكُم سُوءَ العَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبنَاءَكُم ويَستَحيُونَ نِسَاءَكُم وفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِن رَبِّكُم عَظِيمٌ))، إبراهيم: 6.

    هكذا عاش بنو إسرائيل تحت حُكمِ فرعون وقَومِه مستَضعَفِين مستَعبَدِين ينَالُهم الأَذى والعَذابُ بكُلِّ صُوره. واستَمرَّ الأُمرُ معهم، بل زادَ بعد بِعثَةِ موسى وهارون –عليهم الصلاة والسلام- إلى فرعون وقومِه. لذلك قال له بنو إسرائيل عندما حثَّهم على الاستعانة بالصَّبرِ والصَّلاةِ: ((أُوذِينَا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنَا ومِن بَعدِ مَا جِئتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُم أَن يُهلِكَ عَدُوَّكُم ويَستَخلِفَكُم فِي الأَرضِ فَيَنظُرَ كَيفَ تَعمَلُونَ))، الأعراف: 129.

    دافعَ موسى –عليه الصلاة والسلام- عن حقِّ بني إسرائيل في الكرامة والحرية في وجه فرعون، ثمَّ قَامَ بأَمرٍ مِن اللهِ تعالى بإخراجهم من مصر، وكان خُروجُهم سالمين مِن مِصرَ آيةً عظيمةً لهم، فقد جاوزوا البَحرَ المفلُوقِ وغَرِقَ فيه فرعونُ وجنودُه أمام أنظارهم. وبعد ذلك العناء تحرَّر بنو إسرائيل من العبودية والعذاب.

    لقد دخل بنو إسرائيل في صِراعٍ مَعنَويٍّ طَويلٍ مع موسى –عليه الصلاة والسلام، ومع أخيه هارون كذلك. ولم يُعطُوا مقامَ النُّبوَّةِ حظَّه مِن التقدير والتبجيل والطَّاعة والانقياد. وأخطأ كثير من بني إسرائيل في فهم مقتضيات الإنعام والتفضيل وساقوها في غير سياقها. ثمَّ إنَّهم تعاملُوا مع الكِتَابِ المقَدَّسِ تعَامُلا سيِّئًا، وعَبثُوا به نَصًّا ومَعنى.

    منزلة موسى في بني إسرائيل:

    كان موسى –عليه الصلاة والسلام- أَحدُ الذين كَتَبَ لهم اللهُ تعالى النَّجاةَ مِن بَطشِ فِرعون وقَومه، هو وأَخُوه هارون. أمَّا موسى فلِمَا وَقَعَ لأُمِّه مِن إيحاءِ اللهِ تعالى لها بإلقائِه في اليَمِّ وتَسخِيرِ زَوجةِ فِرعونَ للتَّبنَاه ولدا لها، فنشأ في حِجرِ فرعون. وأمَّا هارون فلأنَّه وُلِدَ في عامٍ دُون العَامِ الذي كان يُذبَحُ فيه الأبناء.

    وأصبَحَ موسى وهارون -بإرادةِ اللهِ واختيَارِه وفضلِهِ- نَبيِّين مُرسَلين مِن الله، يُخاطِبُهما ويُوحي إليهما. وذلك في بيئة مجتمعية انقطعت عنها النُّبوةُ قرونا مِن الزَّمنِ، فلم يَكُن بَين يُوسفَ ومُوسى أَحَدٌ فيما ذُكِرَ لنا في الكتاب والسُّنة. ورغم أنَّ بني إسرائيل ظلَّوا على عقيدةِ يَعقوبَ والأَسباطِ مِن بعده، إلَّا أنَّه لم يكُن لهم كِتابٌ وشِرعَةٌ عَامةٌ، فإنَّهم كانوا في سلطان غيرِهم. وكان دَورُ مُوسى وهارون –عليهما الصلاة والسلام- هو إِخرَاجُ بني إسرائيلَ مِن عُبوديَّةِ فِرعون وقَومِه، وسُلطَتِهم، وتحريرُهم لإِقامَةِ مُجتَمعِهم في ضُوءِ عقيدتِهم التي يؤمنوا بها، وتَنشِئَتهم ليستَقِيمُوا على شِرعةِ اللهِ التي تُلائِمُ عقيدةَ التَّوحيدِ، فإنَّ الإيمانَ والعَملَ لا ينفكان.

    لم يحظَ موسى –عليه الصلاة والسلام، وهو كليمُ اللهِ ورسُولُه المؤَيَّدِ بالمعجِزاتِ والآياتِ، من بني إسرائيل بالاحترام والتقدير الذي ينبغي له كنَبيٍّ. فقد تمرَّدوا عليه بعد ذهابه لميقات ربِّه، وعبَدوا العِجلَ، وتهدَّدوا هارون -عليه السلام. يقول تعالى: ((فَأَخرَجَ لَهُم عِجلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلهُكُم وإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ))، طه: 88؛ وقال سبحانه: ((ولَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَومِهِ غَضبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئسَمَا خَلَفتُمُونِي مِن بَعدِي أَعَجِلتُم أَمرَ رَبِّكُم وأَلقَى الأَلوَاحَ وأَخَذَ بِرَأسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيهِ قَالَ ابنَ أُمَّ إِنَّ القَومَ استَضعَفُونِي وكَادُوا يَقتُلُونَنِي فَلَا تُشمِت بِيَ الأَعدَاءَ ولَا تَجعَلنِي مَع القَومِ الظَّالِمِينَ))، الأعراف: 150.

    كما تعنتوا الاستجابةَ لتوجيهاتِ موسى وأوامِرِه، فلم يَدخُلُوا الأَرضَ المباركةَ التي كَتبَ اللهُ لهم! ولم يلتَزِمُوا طَلَبَ المغفِرةِ بقولِ "حِطَّة" والدخول راكعين للقريةِ التي أُذِن لهم بسُكنَاها بل حرَّفُوا الكَلِمةَ ودخلوا يَزحَفُون، وسَألوا موسى أمورا يختبرونه بها، وأن يُريهم اللهَ جَهرةً، وأن يجسدَ لهم اللهَ في وثَنٍ لهم، وقالوا له: لن نَصبِرَ على طَعامٍ واحِدٍ، وسألوه أن يُخرجَ لهم مِن الأرض ما يأكلونه عِوضًا عن المنَّ والسلوى.. وغير ذلك.

    كما طعنوا في شخصِه لمـَّا كان يستتر عنهم عند اغتساله، فقالوا: (ما يَستَتِرُ هذا التَّستُّرَ، إلَّا مِن عَيبٍ بِجلدهِ: إمَّا بَرَصٌ، وإمَّا أَدرَةٌ، وإمَّا آفةٌ"، أي: ما سَترَ جَسدَهُ وجِلدَه بهذهِ الصُّورةِ المبالَغِ فيها إلَّا لمرضٍ في جِلدَه، أو بَرَصٍ، أو آدرَةٍ وهي انتِفاخٌ يكُونُ بالخِصيةِ، أو آفَةٍ أي عَيبُ. وقال الله عن ذلك: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا))، الأحزاب: 69.

    ومع هذا السُّلوكِ المطَّرِدِ مِنهم، كان مُوسى –عليه الصلاة والسلام- صَابِرا حَريصًا أن يُوجِّه قَومَه الوِجهَةَ الصَّحيحةَ، وأن يُحسِّن مِن أَخلاقِهم وتَديُّنِهم وسُلوكِهم، داعيًّا اللهَ تعالى لهم بالمغفِرةِ والعَفوِ والصَّفحِ. لذلك قال -صلى الله عليه وسلم- وقد أذاه أعرابي: (رَحِمَ اللهُ مُوسى.. لقَد أُوذِيَ بأَكثَر مِن هذا فصَبَرَ)[4].

    العنصرية:

    عاش يعقوبُ وذرِّيتَه في مِصرَ آمنينَ عَقِبَ دُخولهم إليها؛ وطاب لنسلهم المقام فيها. إلا أنَّ اختلاف العَقيدَةِ بينهم وبين أهلِ مِصرَ جَعلَهم محافظين على علاقةِ التَّناسُبِ والمصَاهَرةِ فيما بينهم فقط، كُونُهم ترَّبوا على الإيمان والتوحيد. "وبعد ذلك تناسل الأسباط، وكثروا، وأبوا أن يندمجوا مع المصريين؛ فعزلوا أنفسهم عنهم، وتواصوا فيما بينهم أن يكون لكُلِّ سِبطٍ نَسلُه المعرُوفُ المميَّزُ عن بقيةِ الأَسباط، وذلك ليضمَنُوا الاحتفاظَ بنَسبِهم اعتزازاً به، وتعالياً على غيرهم، باعتبار أنهم من ذُرِّيَّةِ الأنبياءِ. وهذه العِزَّةُ التي عاشها اليهودُ في مِصر، مع الشُّعورِ المصَاحِب لهم مِن التَّعالي بنَسبِهم، جَعلَ مَقامَهم في مِصر قَلِقاً مُضطَرباً. وبعد ثَلاثَةِ قُرونٍ -أو تزيدُ- اضطهدهم الفرَاعِنةُ -حُكَّامُ مِصر- واستعبَدُوهم, فبَعثَ اللهُ موسى نبيًّا فيهم، ورسولاً إليهم وإلى فرعون"[5].

    هذا البعد، إضافةً لتحَامُلِ فِرعون وقَومِه عليهم، وإذلالِه واستعبادِه لهم، وجَعلِهم طَبقَةً مسحُوقَةً في المجتمع تُسخَّرُ بِذُلٍّ ومَسكَنَةٍ لأَهلِ مِصر، زادَ مِن نظرةِ "بني إسرائيل" لأنفسهم كمُجتمَع خَاصٍ، وفِئةٍ خَاصةٍ. وفي هذا الإطارِ جَاءَ فِهمُهم لإرسَالِ مُوسى –عليه الصلاة والسلام- إليهم، وبَعثِ اللهِ تعالى له ليُنجيهم مِن فِرعون وقَومِه، مع ما صَاحَب ذلك مِن الآياتِ والمعجِزات؛ ثمَّ ما كان من إنعَامِ الله تعالى لهم وإَكرامِه إيَّاهم عَقِبَ خُروجِهم مِن مِصرَ. فقد تشَكَّلَ في وَعيهم أَنَّهم أُمَّةٌ مُنتَخبةٌ لذَاتها ولعُنصُرها "الجيني" الوراثي، أو ما يُعرفٌ بـ"السُّلالةِ".

    ولم يميز بنو إسرَائيلَ بين مَفهُومِ الاصطِفاءِ كتَكلِيفٍ وبين مَفهُومِ الاصطِفاءِ كحَقٍّ. خاصة وأن الخطاب الإلهي يتوجه إليهم بهذا الوصف "يا بني إسرائيل"!! وخاصَّةً أنَّ بِشاراتِ مُوسى لهم تُخبِرُ بأنَّ النبُّوَّةَ ستكون فيهم، وأنَّهم أُمَّةٌ مُصطَفَاةٌ لحَملِ رِسالةِ هؤلاءِ الأَنبياءِ!! وأنَّ الكُفَّارَ "أَعداءَهم" مَغلُوبُون أَمامَهم!!

    أَضِف لذلك أَربَعين عَامًا مِن التَيه، يُصبِحُ معَه بنُو إسرائِيلَ مجتَمعًا مُنغَلِقًا على نَفسِه! يرى العَالمَ حَولَه أُفُقًا مَسدُودًا لا يمكِنُ الوُلُوجُ إليه والتَّعامُلُ معه!

    هكذا تحوَّلت قَبيلَةُ "بني إسرَائيلَ" بهذا التَّراكُمِ التَّاريخي، والسُّلوكِ الاجتماعي المنغَلِقِ، والفِهمِ المغلُوطِ لخطَابِ الله، والنَّظرَةِ الخَاطِئةِ لنِعَمِ الله ومِنحِه وعَفوِه، مِن "أُمَّةٍ مُختَارَةٍ" لحَملِ الرِّسالَةِ الإلهيةِ إلى "شَعبِ اللهِ المختَارِ" الذي جَاءَت الرِّسَالةً الإلهيَّةُ لتُميِّزَهُ وتُقدِّسَه وتَخدُم حَاجِياتِه ورَغبَاتِه!

    هكذا تشكَّلَت العُنصُريَّةُ في الوعي اليَهودي، وهكذا تَسلَّلت مِن وَعيهم تَحرِيفًا في كُتبِهم المقَدَّسَة، وتَشرِيعًا في التُّلمُود. إنها عَقيدَةٌ تَستَندُ إلى فَلسَفَةٍ تُنَاقِضُ الوحيَّ، وتُعطِي للعُنصُر الإسرائيلي اليَهودِي خَصَائِص فُوقَ مِن سِواه مِن البشر، مهما كان. غير أنَّ عُنصُريَّةِ اليَّهودِ تتَسِمُ بحقدٍ دَفينٍ على كُلِّ مَن سِواهم، حقدٌ لا يُدانِيه حِقدٌ في العنصريات الأخرى.



    [1] البقرة: 40، 47، 122.

    [2] البقرة: 47، 122.

    [3] انظر: الآيات 49 البقرة، و141 الأعراف.

    [4] صحيح البخاري، الرقم: 6059.

    [5] نبذة عن تاريخ بني إسرائيل، موقع طريق الإسلام





    «« توقيع ابو غسان »»

  3. #3
    عضو
    الحالة : ابو غسان غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 5223
    تاريخ التسجيل : Nov 2009
    الجنـس : رجل
    المشاركات : 3,177
    المذهب : سني
    التقييم : 52

     

     

    افتراضي


    تتشكل "الطائفة" عندما تعرف مجموعة نفسها بصيغة مغايرة للآخرين, أكان هذا التعريف بصيغة عرقية أو دينية أو سياسية أو فكرية أو ثقافية أو اقتصادية. وينشأ عن هذا التعريف كيان جديد له سماته وخصائصه المستقلة عن القواسم المشتركة، وفق علاقات وروابط تقوم على أساس التعريف والسمات والخصائص المحدثة. وتعدد الطوائف أمرٌ طبيعيٌ في ضوءِ التنوعِ البشري، وهي حقيقة ماثلة في كل الأعراق والديانات والشرائح الثقافية والشعوب. وهي تتأسس في البيئات الدينية نظرا لقابلية الفهم الإنساني لتأويل النصوص (الدينية) برؤى مختلفة، أو تطبيقها بصور متباينة.


    من "طائفة" إلى "طائفية":

    تنشأ في كل دين طوائف متعددة، على مدى فترات زمنية مختلفة، لعدة أسباب وعوامل. وغالبا تكون عند النشأة قريبة جدا من هوية الأمة والكيان الأكبر الذي تنتمي إليه. لكنَّ تنامي الخلاف وتلبسه بمعطيات عرقية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية قد يدفع للمزيد من الانفصال والاستقلال عن هوية الأمة وكيانها. ويصبح تعريف الطائفة لنفسها تعريفا منفكا عن الهوية الجامعة والأمة الأولى؛ ما يؤدي إلى جنوح أعضائها عن القواسم المشتركة وترجيح كفة القطيعة والعداء. وهنا تبدأ بذور "الطائفية" بالتشكل.

    ولدى أي طائفة دينية قابلية التحول إلى "الطائفية" في ظل السياق الذي تحدده هي لموقعها من الهوية والأمة. وعادة ما يكون التحول متدرجا. على النحو التالي:

    - انعزال "الطائفة" عن محيطها الطبيعي والقطيعة مع البيئة التي نشأت فيها، وانكفائها على ذاتها وعلاقتها البينية. وهو موقف يتزايد في ظل عوامل أخرى تقود لهذا المسار. وربما كان بوحي من الرموز المؤسسة التي تحاول الوصول إلى "الطائفية" انطلاق من هوية خاصة! وهكذا يتم بناء هوية ووعي الأفراد في معزل عن الأمَّة الحاضنة والهويَّة العامة.

    - انفصال "الطائفة" شعوريا، وبناء خصومات لها طابع حدي. وهذا يتَأتَّى بفعل التعبئة التحريضية من الرموز، أو الإنكار السَّلبي مِن طوائف أُخرَى مِن الأُمَّة على الطائفة المتشكلة، أو الجدل الديني القائم على التهديد والإكراه.

    - التَّشكُّل في كيانٍ عُضويٍّ وفَرضِ رابطة تعاقدية، بحيث يرى الفرد نفسه من خلال المجموع غير قادر عن الاستقلال عنهم، في أفكاره ومشاعره ونشاطه ومصالحه. وهذا أخطر شيء يرسخ الانقسام والانفكاك. وهنا يتم التعريف والتخاطب مع الأمَّةِ بلغة "نحن" و"هم"،

    - النظر للذات بمثالية عالية: واعتقاد التميز العنصري، أو الصفاء العقدي، أو النقاء الأخلاقي، ومن ثمَّ اعتبار الخطاب الإلهي والوعد الإلهي خاصا بالطائفة وأفرادها، وإغفال الاسم الجامع والوصف الكلي في هذا الخطاب، والموضوعية في تقدير المخاطب.

    - النظرة للآخر بروح الإنكار والإقصاء والتعامل معه من هذا المنطلق. وهذا أمر طبيعي ينبني على المرحلة السابقة، ويتنامى معه. فإنَّ الطائفة التي ترى في أفرادها الحق والوعد الإلهي والعنصر المختار ترى في كل من يخالفه ويتباين معه منسلخا من الهويَّة والأمَّة، وخصما لله أولا، ثمَّ للدين ثانيا، ثمَّ لقدر الله ثالثا، ينبغي إقصائه وتهميشه. وهنا ينشأ الصراع لتحقيق هذه الغاية النبيلة والمقصد السامي!

    - الدخول في حالة عداء مع المحيط القريب والصراع معه. وهي المرحلة الأخيرة التي تنتهي فيها "الطائفة" وتكتمل "الطائفية" كهويَّةٍ وأُمَّةٍ بديلة!

    اليهودية.. الدين والعرق:

    ذكرنا أنَّ "بني إسرائيل" نشأوا في مصر، ونتيجة تحولات سياسية بات "بنو إسرائيل"، لعامل الاختلاف العرقي والديني، مجموعة مضطهدة ومستضعفة ومستعبدة؛ تنتهك حقوقها وتدنس كرامتها. وهذا الواقع، إضافة لكونهم انغلقوا اجتماعيا على ذواتهم في المجتمع المصري لاعتبارات لم تفرض عليهم، قاد لتشكل نواة "الطائفة" في وعي بني إسرائيل في المجتمع المصري.

    هذا التَّشكُّل تَعزَّز مع خُروجِهم مِن مِصر، ووُقوعهم لعِصيانهم في دَائِرةِ التِّيه التي عاقبهم الله تعالى بها. حيث ظلوا مجتمعا مغلقا بعيدا عن محيطه الإنساني. بل إنَّ الانغلاق ظَلَّ سَيِّدَ الموقف في علاقة فُروع "بني إسرائيل" من ذرية الأسباط بعضهم ببعض، فلم يندمجوا فيما بينهم. وهو ما اعتُبِرَ في بَعثِ النُّقبَاءِ مِنهم: ((ولَقَد أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسرَائِيلَ وبَعَثنَا مِنهُم اثنَي عَشَرَ نَقِيبًا))، المائدة: 12، وفي سقيا الماء لهم: ((وإِذِ استَسقَى مُوسَى لِقَومِهِ فَقُلنَا اضرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ فَانفَجَرَت مِنهُ اثْنَتَا عَشرَةَ عَينًا قَد عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشرَبَهُم))، البقرة: 60. وهذا قدر الله فيهم، والصيرورة التي آلوا إليها لما اتبعهوا من سلوك: ((وقَطَّعنَاهُمُ اثنَتَي عَشرَةَ أَسبَاطًا أُمَمًا))، الأعراف: 160. والتقطيع شدة في القطع وهو التفريق، والقطع مرادف للفصل ونقيض للوصل. فهو سبحانه يخبر عن حالهم، وما قام عليه مجتمعهم من الانفصال والتمايز على أساس النسل. لذلك قال: أسباطا أُمَمًا.

    لم يتوقف هذا الفصل على الداخل الإسرائيلي، فقد رأى "بنو إسرائيل" أنهم جنس مميز عن ذُريَّةِ آدمَ –عليه الصلاة والسلام. لقد أدركوا أنفسهم في مرحلة تاريخية –كما سبق وأشرنا- ذوي مكانة دينية عند الله، اختارهم واصطفاهم وأنعم عليهم، كونهم الطائفة "المسلمة" الوحيدة على الأرض في حقبة ما بعد إبراهيم –عليه الصلاة والسلام، التي عمَّ فيها الكفر وأطبق الشرك فيها على العالم. وقد ورثوا هذا الدِّين والاعتقاد عن أبيهم يعقوب، عن إسحاق، عن إبراهيم –عليه الصلاة والسلام، ما جعلهم يظُّنون أنفسهم جِنسًا بَشريًّا أَرقى مِن غيره، للتركيب الجيني الوراثي فيه!

    إضافة إلى ذلك فإنَّ إرسال الأنبياء فيهم، ومخاطبتهم بالكتب السماوية والشرائع الإلهية، وإحاطتهم بالكرامات والمعجزات، فُسِّرَ لدى بني إسرائيل تفسيرا خاطئا. وهنا نأتي لنرى كيف تشكلت "الطائفية" اليهودية.

    - انعزل اليهود عن محيطهم الطبيعي في مصر، وحدثت القطيعة مع البيئة التي نشأوا بها. وانكفَؤُوا على خاصتهم وبيئتهم الداخلية. وهكذا نشأت أجيال من بني إسرائيل، إلى زمن التيه أيضا.

    - انفصل اليهود شعوريا عن جميع الأمم باعتبارهم كفارا، ونظروا إليهم كخصوم نتيجة السلوك الذي أظهره المصريون معهم. كما أنهم بعد خروجهم من مصر وجدوا القوم الجبارين ودخلوا في صراع معهم، وبات الجهاد أحد موجهات العلاقة مع الآخر، في عالم مليء بالجاهلية.

    - تشكُّلت "الطائفية" اليهودية في ظل اعتبار كُلِّ إسرائيلي مُؤمِنا، وكُلِّ مَن هو غَيرَ إسرائيلي كَافِرا. وأصبح تعريف المؤمن في الوعي الجمعي هو الإسرائيلي. ومن ثمَّ أصبح الدِّين والعِرقُ مُعبِّرا عن هويَّةٍ واحِدةٍ. وهكذا اعتبر بنو إسرائيل كُلَّ مَن سِواهم أمَّة مستباحة: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَالُوا لَيسَ عَلَينَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ويَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وهُم يَعلَمُونَ))، آل عمران: 75. وهذا ما جعل الشعب اليهودي شعبا منغلقا، عنصريا، متشابكا في المصالح بشكل عصبوي.

    - لقد نظر بنو إسرائيل لأَنفُسهم نَظرَةً مِثاليَّةً عالِيَةً، واعتبروا أنفسهم أبناءَ اللهِ وأَحبَاؤَه، وشَعبَ اللهِ المختار. كما جعلوا الهداية الدينية في الدُّنيا لهم، والنَّجاةَ الأُخرَوية في الجنَّة لهم، فقالو: كُونُوا هُودًا تهتدوا! وقالو: لن يَدخُل الجنَّة إلا مَن كان هُودًا![1] وكفروا بمحمد –عليه الصلاة والسلام- كونه جاء من نسل غير نسل بني إسرائيل. فأنكروا رسالته وعادوه وعادوا أتباعه رغم معرفتهم بحقيقة رسالته: ((وَلَمَّا جَاءَهُم كِتَابٌ مِن عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُم وكَانُوا مِن قَبلُ يَستَفتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعنَةُ اللَّهِ عَلَى الكَافِرِينَ))، البقرة: 89.

    هكذا تحوَّل الدين من دين إلهي سماوي إلى طقوس وشعائر وشرائع خاصة بفئة من النَّاس تحتكره لذاتها، وتمارس بموجبه الكفر والظلم والتكذيب والفساد، كطائفة مجتباة لجنسها وعنصرها. وعلى هذا الأساس يمارس اليهود حتى اليوم حياتهم وطقوسهم الدينية ويقيمون علاقتهم مع الآخرين.



    [1] انظر: البقرة آية: 111 و135. وكذلك فعل النصارى.





    «« توقيع ابو غسان »»

  4. #4
    عضو
    الصورة الرمزية محمد السباعى
    الحالة : محمد السباعى غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 9108
    تاريخ التسجيل : Apr 2011
    الجنـس : رجل
    المشاركات : 7,860
    المذهب : سني
    التقييم : 120

     

     

    افتراضي


    جزاك الله خيرا





    «« توقيع محمد السباعى »»

  5. #5
    عضو
    الحالة : سليل الاحرار غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 12564
    تاريخ التسجيل : Jul 2017
    الجنـس : رجل
    المشاركات : 98
    المذهب : سني
    التقييم : 150

     

     

    افتراضي


    وهم أيضا أمة التمرد والعناد..وتاطافح بمثل تلك اللأحداث..فقد قالوا لموسى عليه السلام "إجعل لنا إلاها كما لهم آلهة"..وأقدامهم لاتزال مبتلة من أثر إنشقاق البحرالأحمر..وما إن ذهب موسى عليه السلام للقاء ربه, حتى أغراهم السامري بعبادة العجل..ولما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم..بل قالوا لموسى "اذهب أنت وربك فقاتلا ..." وعندما قيل لهم "قولوا حطة" قالوا: حبة في شعيرة..وأرسل الله عز وجل غليهم الانبياء فقتلوهم ..وحرفوا الكلم عن مواضعه..ووصفوا الانبياء والصالحين بابشع الاوصاف , كما في " توراتهم" الحالية..
    فأي سماوية تبقى لدين أتباعه أمة من هذا القبيل..





    «« توقيع سليل الاحرار »»

اليهودية.. من دين سماوي إلى أكذوبة طائفية

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الحسين يقول لعبد الله بن عمر لو أن أباك عمر بن الخطاب أدرك زماني لنصرني وثيقة من كتب للشيعة.
    بواسطة ناصر بيرم في المنتدى حوار هادف مع المخالفين لأهل السنة والجماعة
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 12-22-2015, 10:10 PM
  2. طائفية المالكي.. وتهديد سنة العراق...
    بواسطة بنت الحسين في المنتدى القسم العــــــــــــام
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 04-09-2012, 08:09 AM
  3. أروع وأجمل ماسمعته أنشودة (ضحكة زماني)
    بواسطة شادي مان في المنتدى قسم الصوتيات الإسلامية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 12-26-2011, 11:57 AM
  4. الكوراني : المجوس عبدة النار أهل كتاب سماوي
    بواسطة ناقل أخبار المنتديات الشقيقة في المنتدى منتديات المواقع الشقيقة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-22-2011, 11:11 PM
  5. هل الشيعة دين سماوي؟
    بواسطة بسمه الشريف في المنتدى حوار هادف مع المخالفين لأهل السنة والجماعة
    مشاركات: 51
    آخر مشاركة: 05-08-2010, 11:04 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

اليهودية.. من دين سماوي إلى أكذوبة طائفية

اليهودية.. من دين سماوي إلى أكذوبة طائفية