الرد على من قال : لا يحرم الإسبال إلا إذا كان للخيلاء
الرد على من قال : لا يحرم الإسبال إلا إذا كان للخيلاء
بيّنتُ لأحد الإخوة حكم الإسبال ، والوعيد الذي ورد فيه ، وأنه يقتضي أن الإسبال كبيرة من الكبائر ؛ واقتنع - بفضل الله تعالى - وانتهى ، ثم ناقش أحد الإخوة فأورد له شبهات حيرته ، وطلب مني ردوداً وأجوبة تطمئنه ؛ فأخبرته أنني لن أرد أو أجيب من تلقاء نفسي وإنما سأرجع لأهل الذكر من المشايخ والعلماء .. والشبهات هي : 1- ما رُوي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل يسبل ثوبه : أما لك فيّ أسوة ، فيقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزجر الرجل ولم ينهاه .. مما يدل - هكذا يقولون ويزعمون - على أن النهي والوعيد الوارد في الأحاديث الأخرى يحمل على استحباب ترك الإسبال ، أو بمعنى آخر كراهة الإسبال . 2- يستشهدون بالموقفين الآتيين : ورد أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يسبل إزاره ؛ فلما قيل له في ذلك ، قال: إن لساقي حموشة ، وأنا أؤم الناس . ورد أن معمر قال : عاتبت أيوب على طول قميصه ، فقال : " إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله ، وهي اليوم في تشميره " فيقولون : لو كان الإسبال حراماً أو كبيرة ما أطال ابن مسعود أو أيوب الإزار أو القميص . 3- يقولون : كيف يستوي الإسبال مع شرب الخمر مثلاً .. في أنهما من الكبائر ؟ . 4- يقولون : إن الجمهور على أن الإسبال مكروه ، ولا أدري من أين لهم هذا ؟ . 5- في قصة استشهاد عمر رضي الله تعالى عنه : … وجاء رجل شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك ، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقدم في الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة ، قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي ، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض ، قال: ردوا علي الغلام ، قال: ابن أخي ارفع ثوبك ، فإنه أنقى لثوبك ، وأتقى لربك . فيقولون : إن هذا يدل على أن سيدنا عمر - رضي الله تعالى عنه - لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ولو كان صغيراً أو حتى مكروهاً - كما هو دأب الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - أو إنه رأى شيئاً في قلب أو حال الشاب يندفع برفع الثوب . 6- يقولون : إن الشهيد - لا شك - أنه من أهل الجنة ، ومع ذلك فإنه قد يكون مسبلاً ، فكيف يتحقق فيه الوعيد الوارد في الأحاديث : " فهو في النار " و " لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم " مع أنه من أهل الجنة ؟ 7- ما ثبت عن الصديق - رضي الله تعالى عنه - أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك لست ممن يفعله خيلاء " فيقولون : هذا يدل على أن الوعيد الوارد في الأحاديث يتعلق بمن يفعله خيلاء . أرجو الله أن نتلقى ردوداً وأجوبة تشفي الصدور لينتهي أخونا وغيره مطمئنين . وجزاكم الله خيراً .
الحمد لله
أولاً :
لابدَّ قبل بيان الجواب من بيان أمرين :
الأول : أن مسألة الإسبال من المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها العلماء ، بل قد ذهب أكثرهم إلى أنه لا يحرم إلا إذا كان على وجه الخيلاء .
وقد سبق ذكر أقوالهم في جواب السؤال رقم (102260) .
والواجب في كل ما تنازع فيه الناس أن يرد إلى الكتاب والسنة ليعلم الصواب من الخطأ ، قال الله تعالى : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) النساء/59 .
وإذا كانت هذه المسألة من المسائل الاجتهادية فإنه لا يجوز الإنكار فيها على المخالف (من الطرفين) لأنه لم يخالف نصاً قطعياً ، ولا إجماعاً معلوماً .
وعلى هذا ، فمن لم يكن عنده أهلية للترجيح بين أقوال العلماء ، وقلَّد أحد الفريقين ، ثقة بعلمهم ، أو لكونهم الأكثر ، فلا إنكار عليه .
وكذا من كان عنده أهلية للترجيح ، ورجَّح أحد القولين بناءً على ما ظهر له من الأدلة ، فلا إنكار عليه أيضاً .
فمثل هذه المسائل الاجتهادية يعمل فيها كل مسلم بما ظهر له أنه هو الصواب ، كما قال بعض السلف : "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" ، ولا يجوز أن تكون تلك المسائل سبباً للمنازعات والخلافات ، فلا يجلس الناس مجلساً إلا وتنازعوا في مثل هذه المسائل ، وأنكر بعضهم على بعض ، واحتد بعضهم على بعض .
ولا مانع من النقاش فيها والحوار والمناظرة بهدوء ، وأسلوب لين بقصد الوصول إلى الصواب واتباعه .
وانظر جواب السؤال رقم (70491) .
الثاني : أن بعض ما نقلته عن المخالف ليس " شبهات " بل أدلة ، استدل بها أئمة أجلاء كحديث أبي بكر رضي الله عنه ، والشبهة لا تكون كذلك ، إذ ليس لها أساس من كتاب ولا من سنة .
ثانياً :
سنرد – على قدر الوسع والطاقة – على ما ذكره الأخ المخالف ، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع ، وأن يفقهنا في ديننا .
1. أما الحديث الأول الذي استدل به : فهو حديث ضعيف ، وهذا نصه وحكم العلماء عليه :
عَنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عَمَّتِهِ رُهْمٍ عَنْ عَمِّهَا عُبَيْدَةَ بْنِ خَلَفٍ قَالَ : قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَأَنَا شَابٌّ مُتَأَزِّرٌ بِبُرْدَةٍ لِي مَلْحَاءَ أَجُرُّهَا ، فَأَدْرَكَنِي رَجُلٌ فَغَمَزَنِي بِمِخْصَرَةٍ مَعَهُ ثُمَّ قَالَ : (أَمَا لَوْ رَفَعْتَ ثَوْبَكَ كَانَ أَبْقَى وَأَنْقَى ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّمَا هِيَ بُرْدَةٌ مَلْحَاءُ ، قَالَ : وَإِنْ كَانَتْ بُرْدَةً مَلْحَاءَ ، أَمَا لَكَ فِي أُسْوَتِي ؟ فَنَظَرْتُ إِلَى إِزَارِهِ فَإِذَا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَتَحْتَ الْعَضَلَةِ . رواه أحمد (22577) .
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
وهذا إسناد ضعيف ، عمة الأشعث اسمها " رهم بنت الأسود " ، قال الحافظ : " لا تُعرف " .
" السلسلة الضعيفة " (4/336 ، 337 ، حديث رقم 1857) .
وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند : "إسناده ضعيف ؛ لضعف سليمان بن قرم" انتهى .
ولو صح الحديث لم يكن فيه دليل للمخالف ، بل العكس هو الصحيح ، فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم باليد واللسان على الصحابي لإسباله ، وقد رأى الصحابي ثوبَ النبي صلى الله عليه وسلم فرآه إلى نصف ساقه ! فأين في الحديث – لو صح – ما يقوي قول المخالف ؟
2. استدل المخالف بأثرين :
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وعن أيوب السختياني رحمه الله ، والأول من الصحابة ، والثاني من التابعين .
أ. أما أثر ابن مسعود ، فعن أبي وائل عن ابن مسعود أنه كان يسبل إزاره ، فقيل له في ذلك ، فقال : إني رجل حَمْش الساقين . رواه ابن أبي شيبة في " المصنف " ( 5 / 166 ) ، وإسناده جيد كما سيأتي في كلام الحافظ ابن حجر .
حَمْش الساقين : دقيق الساقين .
وأما معناه : فهو – أولاً – أثر عن صحابي ، وليس حديثاً مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقول الصحابي إنما يكون حجة يستدل بها إذا لم يخالف نصاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم إنه ليس فيه ما يدل على أنه كان يسبل إزاره تحت الكعبين ، بل يمكن أن يكون نازلاً عن الحد المتعارف عليه بينهم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد أنه كان يسبل إزاره فقيل له في ذلك فقال : إني حَمْش الساقين : فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب ، وهو أن يكون إلى نصف الساق ، ولا يُظن به أنه جاوز به الكعبين ، والتعليل يرشد إليه ، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة ، والله أعلم" انتهى .
" فتح الباري " ( 10 / 264 ) .
وقصة عمرو بن زرارة رضي الله عنه أخرجها الإمام أحمد في " مسنده " ( 17817 ) وفيها أنه رضي الله عنه كان حمش الساقين ، فأسبل إزاره ، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأمره برفع إزاره وقال له : (إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه) .
وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2682) وشعيب الأرناؤط في تحقيق المسند .
ب. وأما أثر أيوب السختياني ؛ فالسنة النبوية حاكمة على قول كل أحد ، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم .
وأيضاً : يحتمل أن يكون أيوب أطال ثوبه عن نصف الساق ولم ينزله عن الكعبين ، كما قيل في فعل ابن مسعود رضي الله عنه كما سبق .
3. أما قول من قال " كيف يستوي الإسبال مع شرب الخمر – مثلا – في أنهما من الكبائر " : فالرد عليه : بأن الذنوب والمعاصي لاشك تتفاوت ، فمنها الصغائر ومنها الكبائر ، ومنها أكبر الكبائر ، ثم الصغائر والكبائر وأكبر الكبائر تتفاوت فيما بينها ، وهذا التفاوت لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم التحريم ، فشرب الخمر من الكبائر ، والزنى من الكبائر ، وقتل المؤمن ظلماً وعدواناً من الكبائر ، ولكن هذه الذنوب متفاوتة فيما بينها ، ولا يعني ذلك أن فيها ما ليس محرماً .
4. أما قوله إن الجمهور على القول بالكراهة : فنعم ، صحيح ، ولسنا ننكر هذا ، وقد بينا هذا في أول الجواب ، وليس قول الجمهور يعني موافقة الحق ، ولم يتعبدنا ربنا تعالى بقول جمهور العلماء ، وقد أمرنا الله تعالى عند التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة لا إلى قول الجمهور ، وهو واضح بحمد الله .
5. وأما استشهاده بإنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المسبل أثناء توجعه من الطعنة القاتلة : فهو عليهم لا لهم ، لأن عمر رضي الله عنه لا ينكر على هذا الشاب وهو في هذه الحال (بين الحياة والموت) إلا وهو يعلم أن ما فعله ذلك الشاب أمر لا ينبغي السكوت عليه ، وليس بالأمر الهين ، فإنكار عمر رضي الله عنه يدل على أن هذا الفعل منكر في الشرع ، ولكن من أين فهم المخالف أنه مكروه وليس محرماً ؟
وعمر رضي الله عنه لا يرى ما في قلوب الناس ، ولم ينقل في القصة أنه رأى من حال الشاب ما ذكره المخالف ، بل هذه مجرد دعوى تحتاج إلى دليل يثبتها .
6. وأما ما ذِكره من فضل الشهيد ، وأنه في الجنة ، وظنه أنه يتعارض مع عقوبة المسبل : فهو كلام مردود ، فإذا كان هذا – يدل عنده – يعني أن الإسبال ليس حراماً : فليقل هذا في الكذب وقطيعة الرحم وشرب الخمر وغيرها من الكبائر المتوعد أصحابها بالنار ، فكيف سيوفق بين الوعيد عليها ، والوعد بالجنة للشهيد إذا كان الشهيد مرتكباً لها أو لبعضها ؟
فالوعيد على المعصية قد يتخلف لأسبابٍ ليس هذا موضع بسطها .
7. وأما ما جاء في حديث أبي بكر الصدِّيق وأنه كان إحدى شقي ثوبه يسترخي وكان يتعاهده ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : (إنك لست ممن يفعله خيلاء) فليس لهم فيه دليل ، بل هو عليهم لا لهم ، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يشد ثوبه ولم يكن يرخيه ، بل كان يسترخي ، ولم يكن ليتركه ، بل كان يتعاهده ، فمن كان حاله كحال أبي بكر فهو معذور . قال الإمام الذهبي رحمه الله :
"وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية – نوع من اللباس طويل الأكمام - تحت كعبيه ، وقيل له : قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) ، يقول : إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء ، وأنا لا أفعل خيلاء ؛ فتراه يكابر ، ويبرئ نفسه الحمقاء ، ويعمد إلى نص مستقل عام ، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء ، ويترخص بقول الصديق : إنه يا رسول الله يسترخي إزاري ؛ فقال : (لستَ يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء) ، فقلنا : أبو بكر رضي الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولاً على كعبيه أولاً ، بل كان يشده فوق الكعب ، ثم فيما بعد يسترخي ، وقد قال عليه السلام : (إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، ولا جناح عليه فيما بين ذلك والكعبين)" انتهى .
" سير أعلام النبلاء " ( 3 / 234 ) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
وأما من احتج علينا بحديث أبي بكر رضي الله عنه ، فنقول له : ليس لك حجة فيه من وجهين :
الوجه الأول : أن أبا بكر رضي الله عنه قال : " إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه ... " فهو رضي الله عنه لم يرخِ ثوبه اختياراً منه ، بل كان ذلك يسترخي ، ومع ذلك فهو يتعاهده ، والذين يسبلون ويزعمون أنهم لم يقصدوا الخيلاء يرخون ثيابهم عن قصد ..
الوجه الثاني : أن أبا بكر رضي الله عنه زكَّاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد له أنه ليس ممن يصنع خيلاء ، فهل نال أحد من هؤلاء تلك التزكية والشهادة ؟ ولكن الشيطان يفتح لبعض الناس اتباع المتشابه من نصوص الكتاب والسنة ليبرر لهم ما كانوا يعملون ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، نسأل الله لنا الهداية والعافية .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " ( 12 / السؤال رقم 223 ) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
أما قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما قال : (يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده فقال له صلى الله عليه وسلم : إنك لست ممن يفعله خيلاء) : فمراده صلى الله عليه وسلم أن من يتعاهد ملابسه إذا استرخت حتى يرفعها لا يعد ممن يجر ثيابه خيلاء لكونه لم يسبلها ، وإنما قد تسترخي عليه فيرفعها ويتعاهدها ولا شك أن هذا معذور ، أما من يتعمد إرخاءها سواء كانت بشتاً أو سراويل أو إزاراً أو قميصاً : فهو داخل في الوعيد ، وليس معذوراً في إسباله ملابسه ؛ لأن الأحاديث الصحيحة المانعة من الإسبال تعمه بمنطوقها وبمعناها ومقاصدها ، فالواجب على كل مسلم أن يحذر الإسبال وأن يتقي الله في ذلك ، وألا تنزل ملابسه عن كعبه عملاً بهذا الحديث الصحيح ، وحذراً من غضب الله وعقابه ، والله ولي التوفيق .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 6 / 383 ) .
وأما قولهم : إن الوعيد لا يكون إلا على من أسبل خيلاء : فهم وإن كانوا مسبوقين بهذا القول ، لكن لا يظهر أنه صواب ، لأنه قد ورد وعيد على الإسبال مجرداً ، وورد وعيد آخر على جر الإزار خيلاء ، ولا يمكن حمل المطلق على المقيد هنا لاختلاف الفعلين والعقوبتين ، والذين أنكر عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم لم يكونوا من أهل الكبر والخيلاء .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وفي هذه الأحاديث أن إسبال الإزار للخيلاء كبيرة ، وأما الإسبال لغير الخيلاء فظاهر الأحاديث تحريمه أيضاً .
" فتح الباري " ( 10 / 263 ) .
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله :
لا يجوز لرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول : لا أتكبر فيه ؛ لأن النهي تناوله لفظاً ، وتناول علته ، ولا يجوز أن يتناول اللفظ حكماً فيقال إني لست ممن يمتثله لأن العلة ليس فيَّ ، فإنه مخالفة للشريعة ، ودعوى لا تسلم له ، بل مِن تكبره يطيل ثوبه وإزاره فكذبه معلوم في ذلك قطعاً .
" عارضة الأحوذي " ( 7 / 238 ) .
وقد نقله ابن حجر رحمه الله – مع اختلاف في بعض ألفاظه - وعلق عليه بقوله :
وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب ، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء ، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه : " وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة " ... .
" فتح الباري " ( 10 / 264 ) .
وقال الصنعاني رحمه الله :
وقد دلَّت الأحاديث على أن ما تحت الكعبين في النار ، وهو يفيد التحريم ، ودل على أن من جَرّ إزاره خيلاء لا يَنْظر الله إليه ، وهو دال على التحريم ، وعلى أن عقوبة الخيلاء عقوبة خاصة هي عدم نظر الله إليه ، وهو مما يُبْطل القول بأنه لا يحرم إلا إذا كان للخيلاء .
" استيفاء الأقوال في تحريم الإسبال على الرجال " ( ص 26 ) .
فهذا مجمل الجواب على ما أوردته في سؤالك ، والذي ينبغي للمسلم أن يجتهد في الوصول إلى الصواب في مسائل الخلاف بالبحث والنظر إن كان أهلاً ، وإن لم يكن أهلاً لهذا فليقلِّد من يثق في دينه وعلمه ، وليدع عنه الإنكار والنقاش والجدال ، ونسأل الله تعالى أن يعلِّمَنا ما جهلنا ، وأن ينفعنا بما علَّمَنا .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب
الرد على من قال بالتحريم مطلقا ولم يقيد
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
البحث الذي قدمه أخونا الفاضل حول إسبال الإزار كان شيقا حقيقة، إلا أنه بدا لي تعقيب إن صح أن نسميه تعقيبا مع بعض الإضافات: لو أن الفاضل -حفظه الله- أكمل كلام الحافظ ابن حجر كاملا، بعده إن ظهر له أن يعلق عليه بما يراه صوابا فله ذلك، ولا أحد يعترض عليه، قال الحافظ في "فتح الباري" (10/263)، وهو تتمة فقط للكلام الذي وقف عنده أخونا الفاضل -حفظه الله تعالى- قال الحافظ:
لكن استدل بالتقييد في هذه الأحاديث بالخيلاء على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد هنا فلا يحرم الجر والاسبال إذا سلم من الخيلاء قال ابن عبد البر (3/241) مفهومه أن الجر لغير الخيلاء لا يلحقه الوعيد إلا أن جر القميص وغيره من الثياب مذموم على كل حال، وقال النووي: الإسبال تحت الكعبين للخيلاء فإن كان لغيرها فهو مكروه وهكذا نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، قال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق والجائز بلا كراهة ما تحته إلى الكعبين وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء وإلا فمنع تنزيه لأن الأحاديث الواردة في الزجر عن الإسبال مطلقة فيجب تقييدها بالإسبال للخيلاء انتهى. والنص الذي أشار إليه ذكره البويطي في مختصره عن الشافعي، قال: لا يجوز السدل في الصلاة ولا في غيرها للخيلاء ولغيرها خفيف لقول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكر اهـ. وقوله: خفيف ليس صريحا في نفي التحريم بل هو محمول على أن ذلك بالنسبة للجر خيلاء فأما لغير الخيلاء فيختلف الحال فإن كان الثوب على قدر لابسه لكنه يسدله فهذا لا يظهر فيه تحريم ولا سيما إن كان عن غير قصد كالذي وقع لأبي بكر وإن كان الثوب زائدا على قدر لابسه فهذا قد يتجه المنع فيه من جهة الإسراف فينتهي إلى التحريم وقد يتجه المنع فيه من جهة التشبه بالنساء وهو أمكن.
قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله البسام رحمه الله: "إن القاعدة الأصولية هي حمل المطلق على المقيد وهي قاعدة مطردة في عموم نصوص الشريعة، والشارع الحكيم لم يقيد تحريم الإسبال -بالخيلاء- إلا لحكمة أرادها ولولا هذا لم يقيده، والأصل في اللباس الإباحة ، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والشارع قصد من تحريم هذه اللبسة الخاصة قصد الخيلاء من الإسبال وإلا لبقيت اللبسة المذكورة على أصل الإباحة، وإذا نظرنا إلى عموم اللباس وهيئاته وأشكاله لم نجد منه شيئاً محرماً إلا وتحريمه له سبب وإلا فما معنى التحريم وما الغرض منه، لذا فإن مفهوم الأحاديث أن من أسبل ولم يقصد بذلك الكبر والخيلاء ، فإنه غير داخل في الوعيد".اهـ من "توضيح الأحكام من بلوغ المرام" (6/246).
قلت: هذا هو الصواب الذي لا يسع أحدًا الحيد عنه، وهو الذي تلتئم به كل الأدلة و يتوافق و شرائع الإسلام. وهو مذهب أئمة الإسلام قديمًا وحديثًا.
فقد جاء في "كشاف القناع" للبهوتي (1/277 ): قال أحمد في رواية حنبل: "جر الإزار وإسبال الرداء في الصلاة إذا لم يرد الخيلاء فلا بأس".
وفي "المجموع شرح المهذب" (4/455) للنووي رحمه الله: "يحرم إطالة الثوب والإزار والسراويل على الكعبين للخيلاء، ويكره لغير الخيلاء، نص عليه الشافعي في(البويطي) وصرح به الأصحاب." وقد بيناه في باب ستر العورة ويستدل له بالاحاديث الصحيحة المشهورة (منها) حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال "من جر وبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" وقال أبو بكر رضي الله عنه "يا رسول الله ان أزاري يسترخي إلا أن اتعاهده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انك لست ممن يفعله خيلاء" رواه البخاري وروى مسلم بعضه وفى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال "لا ينظر يوم القيامة الي من جر ازاره بطرا" وفى البخاري عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال "ما أسفل من الكعبين من الازار في النار" وفى سنن أبى داود باسناد صحيح.
وجاء في (الآداب الشرعية) لابن مفلح الحنبلي، في فصل (في مقدار طول الثوب للرجل والمرأة وجر الذيول) (4/226)؛ قال صاحب 'المحيط ' من الحنفية: "وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ارْتَدَى بِرِدَاءٍ ثَمِينٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَكَانَ يَجُرُّهُ عَلَى الْأَرْضِ فَقِيلَ لَهُ أَوَلَسْنَا نُهِينَا عَنْ هَذَا؟ فَقَالَ إنَّمَا ذَلِكَ لِذَوِي الْخُيَلَاءِ وَلَسْنَا مِنْهُمْ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَدَمَ تَحْرِيمِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَرَاهَةٍ وَلَا عَدَمِهَا.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في "مجموع الفتاوى" (22\138): والفعل الواحد فى الظاهر يثاب الإنسان على فعله مع النية الصالحة ويعاقب على فعله مع النية الفاسدة.
وضرب -رحمه الله- على ذلك عدة أمثلة ثم قال:
وكذلك اللباس: "فمن ترك جميل الثياب بخلا بالمال لم يكن له أجر، ومن تركه متعبدا بتحريم المباحات كان آثما، ومن لبس جميل الثياب إظهارا لنعمة الله وإستعانة على طاعة الله كان مأجورا، ومن لبسه فخرا وخيلاء كان آثما، فإن الله لا يحب كل مختال فخور. ولهذا حرم إطالة الثوب بهذه النية كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله يوم القيامة إليه" فقال أبوبكر: يا رسول الله إن طرف إزارى يسترخى إلا أن أتعاهد ذلك منه؟ فقال: "يا أبا بكر إنك لست ممن يفعله خيلاء". وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"بينما رجل يجر إزاره خيلاء إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة". فهذه المسائل ونحوها تتنوع بتنوع علمهم وإعتقادهم .اهـ (أي بحسب نياتهم ومقاصدهم).
وقال رحمه الله في "شرح العمدة" (4/363 ):
وهذه نصوص صريحة في تحريم الإسبال على وجه المخيلة، والمطلق منها محمول على المقيد، وإنما أطلق ذلك؛ لأن الغالب أن ذلك إنما يكون مخيلة. ثم قال: ولأن الأحاديث أكثرها مقيدة بالخيلاء فيحمل المطلق عليه، وما سوى ذلك فهو باقٍ على الإباحة، وأحاديث النهي مبنية على الغالب والمظنة.اهـ
وقال الشوكاني -رحمه الله- في "نيل الأوطار" (2/112): الحديث يدل على تحريم جر الثوب خيلاء، والمراد بجره هو جره على وجه الأرض وهو الموافق لقوله صلى الله عليه وسلم :"ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار"، وظاهر التقييد بقوله: خيلاء، يدل بمفهومه أن جر الثوب لغير الخيلاء لا يكون داخلا في هذا الوعيد.
وقال الصنعاني -رحمه الله- في "سبل السلام" (4/158):
والمراد: جر الثوب على الأرض، وهو الذي يدل له حديث البخاري "ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار". وتقييد الحديث بالخيلاء دال بمفهومه أنه لا يكون من جره غير خيلاء داخلا في الوعيد، وقد صرح به ما أخرج البخاري وأبو داود والنسائي أنه قال أبو بكر رضي الله عنه لما سمع هذا الحديث: إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: "إنك لست ممن يفعله خيلاء"، وهو دليل على اعتبار المفاهيم من هذا النوع.اهـ
لكن الصنعاني -رحمه الله تعالى- يبدو لي أن له رسالة مستقلة في تحريمه مطلقا.
وقال السندي في "حاشيته على البخاري" (4/ 24 ) قال معلقًا على حديث "ما أسفل من الكعبين فهو في النار": أي إذا كان ذلك خيلاء .
وهو اختيار البخاري رحمه الله في جامعه الصحيح حيث عقد بابًا و ترجم له: من جر إزاره من غير خيلاء. وذكر تحته حديثين؛ أحدهما عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم قال:"من جر ثوبه خيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّهِ إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده. فقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم: إنك لست ممن يفعله خيلاء".
والآخر عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلاً حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَثَابَ النَّاسُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَجُلِّيَ عَنْهَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا وَقَالَ : "إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئاً فَصَلُّوا وَادْعُوا اللَّهَ حَتَّى يَكْشِفَهَا". اهـ
وتعقيبا على كلام الحافظ ابن حجر الذي نقله عنه أخونا الفضل، قال الإمام الشوكاني -رحمه الله- في "نيل الأوطار" (2/113): وقد عرفت ما في حديث الباب من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء وهو تصريح بأن مناط التحريم الخيلاء، وأن الإسبال قد يكون للخيلاء، وقد يكون لغيره، فلابد من حمل قوله: "فإنها من المخيلة" في حديث جابر بن سليم، على أنه خرج مخرج الغالب، فيكون الوعيد المذكور في حديث الباب متوجهاً إلى من فعل ذلك اختيالاً، والقول: بأن كل إسبال من المخيلة أخذاً بظاهر حديث جابر ترده الضرورة، فإن كل أحد يعلم أن من الناس من يسبل إزاره مع عدم خطور الخيلاء بباله. ثم قال: وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث وعدم إهدار قيد الخيلاء المصرح به في الصحيحين. ثم قال: وحمل المطلق على المقيد واجب، وأما كون الظاهر من عمرو أنه لم يقصد الخيلاء فما بمثل هذا الظاهر تعارض الأحاديث الصحيحة .اهـ
وممن تبنىّ هذا القول من العلماء المعاصرين، سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- حيث قال معلقًا على حديث جابر بن سليم: "إياك والإسبال فإنه من المخيلة". قال -رحمه الله-: "فجعل الإسبال كله من المخيلة؛ لأنه في الغالب لا يكون إلا كذلك، ومن لم يُسبل للخيلاء فعمله وسيلة لذلك، والوسائل لها حكم الغايات".
قلت: ليس هذا على إطلاقه، فما يكون للخيلاء في مجتمع قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر، وهذا أمر مشاهد، لأن العادات والأعراف غير ثابتة.
ومن أهل العلم ممن قال: إن الوصف بالخيلاء خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له عند عامة الأصوليين، كما قال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- كما في قوله: (وربائبكم اللاتي في حجوركم)، فبنت المرأة محرمة على زوجها، ربيبة كانت عنده أم لا، ونحو قوله: (ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة)، فالربا قليلُه وكثيرُه حرام.
والجواب: أن إلحاق هذه المسألة بما ذكر لا يستقيم لوجود الفارق؛ ذلك لأن دليل القيد بالخيلاء ليس بالمفهوم وإنما هو بالمنطوق و هو قوله صلى الله عليه و سلم لأبي بكر رضي الله عنه: "إنك لست ممن يفعله خيلاء".
ويقطع كلَّ تأويل حديثُ ابن عمر رضي الله عنهما الذي فيه:"من جر إزاره لا يريد بذلك إلا المخيلة فإن الله لا ينظر إليه يوم القيامة" رواه مسلم (2085) وأبو عوانة (8585) وغيرهما.
وهو نص صريح في أن الإسبال لا يحرم إلا إذا قُصد به الإختيال، وفيه أيضًا رد على من يزعم أن الإختيال يحصل بمجرد الإسبال و لو لم يخطر ببال المسبل.
والكلام طويل وطويل في هذا الباب، وهو كما قال أخونا الفاضل، من رأى أن الحديث مطلق فلا يعقب عليه، ولا يحق له أن ينكر على من يراه مقيدا.