بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه وبعد : فهذا كلمة موجزة في صفة الهرولة ، وهل هي ثابتة لله تعالى ؟ وهل بين السلف خلاف فيها ؟
والداعي لها تساؤل طرحه أحد الإخوة بالأمس حول هذا الموضوع فرأيت أن أثبت الجواب هنا لتعم الفائدة .
أولاً : بعض الأحاديث الواردة فيها :
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يقول الله عز وجل؛ أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هم خير منهم ، وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )) .
رواه البخاري ومسلم .
2- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ، ومن جاء بالسيئة فجزاؤه سيئة مثلها أو أغفر ، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة )) .
رواه البخاري ومسلم .
ثانيا: الأقوال فيها ، وللسلف فيها قولان :
الأول: إثباتها على ما يليق بالله تعالى ، وقد نص على ذلك بعض السلف منهم الهروي في كتابه الأربعين في الصفات ، حيث بوب عليها فقال: باب الهرولة لله تعالى ، وذكر فيها الحديث القدسي .
وهو قول اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، واختيار الشيخ ابن عثيمين رحم الله الجميع .
القول الثاني : تفسير الهرولة الواردة في هذا الحديث بسرعة قبول الله تعالى وإقباله على عبده المتقرب إليه ، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية المنصوص عليه في بيان تلبيس الجهمية في الجزء غير المطبوع ، حسب ما ذكر الشيخ الغنيمان في شرحه على كتاب التوحيد للبخاري (2/575).
وليس له نص بإثبات الهرولة فيما وقفت عليه من كتبه المطبوعة ، وجل كلامه في الفتاوى وغيرها على هذا الحديث منصب على قضية قرب الله تعالى من عابدية وسائليه ، دون تعرض لمسألة هل يوصف الله تعالى بالهرولة .
وهناك زيادة مدرجة في الحديث عند البيهقي في الأسماء والصفات وفيها بعد حديث أبي ذر : ( فقالوا : هذا الحديث يستبشعه الناس . فقال : إنما هذا عندنا على الإجابة ) .
قال البيهقي تعليقا على هذه الزيادة : والذي في آخر روايتنا أظنه من قول الأعمش . اهـ
والأعمش أحد رجال السند ، وهو يفسره بالإجابة .
وأقر الشيخ ابن عثيمين بوجاهة القول الثاني وإن لم يرجحه ، وأفتي به الشيخ ابن جبرين ، وقرره الغنيمان في شرحه على كتاب التوحيد من صحيح البخاري .
ثالثاً : المادة العلمية لمن أراد للتوسع والإطلاع على تفاصيل المسألة :
أولاً - نصوص القائلين بأنها صفة :
1- اللجنة الدائمة : ورد في الفتوى ( رقم 6932) من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (3/142) ما يلي :
س : هل لله صفة الهرولة ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه …وبعد
ج: نعم صفة الهرولة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به قال تعالى : " إذا تقرب إلي العبد شبراً تقربت إليه ذراعاً وإذا تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا أتاني ماشياً أتيته هرولة " رواه : البخاري ومسلم 0
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم " 0
وقد وقع على هذه الفتوى كل من المشايخ : عبدالعزيز بن باز ، عبدالرازق عفيفي ، عبدالله بن غديان ، عبدالله بن قعود . ونشرت في منشورة في مجلة البحوث العدد (39) .
2- قول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، فقد فصل فيها في رسالته قواعد في أسماء الله وصفاته : فقال :
المثال الثاني عشر: قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تعالى أنه قال: "من تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشى أتيته هرولة".
وهذا الحديث صحيح، رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، من حديث أبي ذر رضى الله عنه، وروى نحوه من حديث أبي هريرة أيضا. وكذلك روى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة رضى الله عنه في كتاب التوحيد، الباب الخامس عشر.
وهذا الحديث كغيره من النصوص الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى، وأن سبحانه فعال لما يريد، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه"، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على قيام الأفعال الاختيارية به تعالى.
فقوله في هذا الحديث: تقربت منه وأتيته هرولة؛ من هذا الباب.
والسلف أهل السنة والجماعة يجرون هذه النصوص على ظاهرها، وحقيقة معناها اللائق بالله عز وجل، من غير تكييف ولا تمثيل. قال شيخ الإسلام
ابن تيميه في شرح حديث النزول، (ص 466، ج 5) من "مجموع الفتاوى": "وأما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستوائه على العرش. وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر"اهـ.
فأي مانع يمنع من القول بأنه يقرب من عبده كيف يشاء مع علوه؟، وأيّ مانع يمنع من إتيانه كيف يشاء بدون تكييف ولا تمثيل؟.
وهل هذا إلا من كماله أن يكون فعالاً لما يريد، على الوجه الذي به يليق؟.
وذهب بعض الناس إلى أن قوله تعالى في هذا الحديث القدسي: "أتيته هرولة" يراد به: سرعة قبول الله تعالى وإقباله على عبده المتقرب إليه، المتوجه بقلبه وجوارحه، وأن مجازاة الله للعامل له أكمل من عمل العامل. وعلل ما ذهب إليه بأن الله تعالى قال: "ومن أتاني يمشي" ومن المعلوم أن المتقرب إلى الله عز وجل، الطالب للوصول إليه، لا يتقرب ويطلب الوصول إلى الله تعالى بالمشي فقط، بل تارة يكون بالمشي كالسير إلى المساجد، ومشاعر الحج، والجهاد في سبيل الله، ونحوها. وتارة بالركوع والسجود ونحوهما. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، بل قد يكون التقرب إلى الله تعالى وطلب الوصول إليه والعبد مضطجع على جنبه، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب".
قال: فإذا كان كذلك، صار المراد بالحديث بيان مجازاة الله تعالى العبد على عمله، وأن من صدق في الإقبال على ربه وإن كان بطيئا جازاه الله تعالى بأكمل من عمله وأفضل.
وصار هذا هو ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية المفهومة من سياقه.
وإذا كان هذا ظاهر اللفظ بالقرينة الشرعية، لم يكن تفسيره به خروجا به عن ظاهره، ولا تأويلاً كتأويل أهل التعطيل، فلا يكون حجة لهم على أهل السنة. ولله الحمد.
وما ذهب إليه هذا القائل له حظ من النظر، لكن القول الأول أظهر وأسلم وأليق بمذهب السلف.
ويجاب عن من جعله قرينة من كون التقرب إلى الله تعالى، وطلب الوصول إليه لا يختص بالمشي: بأن الحديث خرج مخرج المثال لا الحصر، فيكون المعنى: من أتاني يمشي في عبادة تفتقر إلى المشي لتوقفها عليه، بكونه وسيلة لها كالمشي إلى المساجد للصلاة، أو من ماهيتها كالطواف والسعي. والله تعالى أعلم . اهـ
ثانياً - نصوص القائلين بأنها ليست صفة :
1- قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية في الجزء غير المطبوع كما نقله الغنيمان في شرحه لكتاب التوحيد : ( ظاهر الخطاب أن أحد التقديرين من جنس الآخر، وكلاهما مذكور بلفظ المساحة.
فلا يخلو إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه هو تقرب بالمساحة المذكورة، أو لا يكون.
فإن كان ذلك هو ظاهر ذلك اللفظ، فإما أن يكون ممكنا، أو لا يكون.
فإن كان ممكنا، فالآخر أيضا ممكن، ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر.
فإن لم يكن ممكنا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه.
وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك، فيكون الآخر أيضا ظاهرا في الخطاب، فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق.
ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله بحركة بدنه شبرا، وذراعا, ومشيا، وهرولة ) . اهـ
2- الشيخ ابن جبرين : قال في شرح الطحاوية : الجواب: الصحيح أن الهرولة هنا بمعنى قرب الرب تعالى إلى عبده بثوابه، فالقرب معنوي، العبد لا يتجاوز مكانه، وإنما تقرباته بالأعمال، فقرب الرب إليه، وهرولته -يعني: إسراعه- إنما هو بالأعمال، بكثرة الثواب، فلا يقال: إن الهرولة صفة من صفات الله في هذا الحديث، إنما ذكرها على وجه المبالغة في كثرة الثواب . انتهى .
وأختم النصوص بنص مهم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله من شرح السفارينية يقول فيه :
فيه من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن ، مثلاً : في قوله تعالى : ( من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً ) ، لا يجزم الإنسان بأن المراد القرب الحسي ، فإن الإنسان لا شك ينقدح في ذهنه أن المراد بذلك القرب المعنوي ، ( من أتاني يمشي أتيته هرولة ) ، هذا أيضاً لا يجزم الإنسان بأن الله يمشي مشياً حقيقياً هرولة ، ينقدح في ذهنه أن المراد الإسراع في إثابته ، وأن الله تعالى إلى الإثابة أسرع من الإنسان إلى العمل ؛ ولهذا اختلف علماء أهل السنة في هذه المسألة هل هو هذا أو هذا ؟
فأنت إذا قلت هذا أو هذا لست تتيقنه كما تتيقن نزول الله عز وجل الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ) 369 هذا لا يشك فيه الإنسان أنه نزول حقيقي ، وكما في قوله : [ استوى على العرش ] ( الأعراف 54 ) ، لا يشك الإنسان أنه استواء حقيقي . اهـ
،وهذه فوائد ذات صلة:
1-ظاهر كلام ابن قيم الجوزية-رحمه الله-إثباتها كما في:"الصواعق المرسلة"3/1151.
2-بسط الكلام على هذه الصفة الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-في:"الجواب المختار"؛فلينظر.
3-تكلم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-بما أشرتم إليه كما في:"بيان تلبيس الجهمية"6/101 المطبوع أخيراً.
4-أشار الدارمي-رحمه الله-في نقضه إلى هذه الصفة-ولا تحضرني الصفحة الآن-.
والعلم عند الله-تعالى-...
هذا ما تسنى لي ذكره من المسألة ، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم