دور الحوزات في هجر القرآن الكريم:
يقول الدكتور جعفر الباقري: (.. من الدعائم الأساسية التي لم تلق الاهتمام المنسجم مع حجمها وأهميتها في الحوزة العلمية: هو القرآن الكريم، وما يتعلق به من علوم ومعارف وحقائق وأسرار، فهو يمثل الثقل الأكبر، والمنبع الرئيسي للكيان الإسلامي بشكل عام.
ولكن الملاحظ هو عدم التوجه المطلوب لعلوم الكتاب الشريف؛ وعدم منحه المقام المناسب في ضمن الاهتمامات العلمية القائمة في الحوزة العلمية؛ بل وإنه لم يدخل في ضمن المناهج التي يعتمدها طالب العلوم الدينية طيلة مدة دراسته العلمية؛ ولا يختبر في أي مرحلة من مراحل سيره العلمي بالقليل منها ولا بالكثير.
فيمكن بهذا لطالب العلوم الدينية في هذا الكيان أن يرتقي في مراتب العلم؛ ويصل إلى أقصى غاياته وهو (درجة الاجتهاد) من دون أن يكون قد تعرف على علوم القرآن وأسراره؛ أو اهتم به ولو على مستوى التلاوة وحسن الأداء)([2]) أهـ.
ويقول المرشد العام للشيعة اليوم في إيران آية الله خامنئي: (مما يؤسف له أن بإمكاننا بدء الدراسة ومواصلتها إلى حين استلام إجازة الاجتهاد من دون أن نراجع القرآن ولو مرة واحدة.... لماذا؟! لأن دروسنا لا تعتمد على القرآن)([3]) أهـ.
ويقول أيضاً: (.. إنَّ الانزواء عن القرآن الذي حصل في الحوزات العلمية وعدم استئناسنا به؛ أدى إلى إيجاد مشكلات كثيرة في الحاضر ...!! إن هذا البعد عن القرآن الكريم يؤدي إلى وقوعنا في قصر النظر)([4]). أهـ.
ويقول الدكتور جعفر الباقري: (هذا الأمر الحساس أدى إلى بروز مشكلات مستعصية وقصور حقيقي في واقع الحوزة العلمية لا يقبل التشكيك والإنكار). أهـ .
ويقول محمد حسين فضل الله: (... فقد نفاجأ بأن الحوزة العلمية في النجف أو قم أو في غيرهما لا تمتلك منهجا دراسياً الزامياً للقرآن)([5]) أهـ.
وإذا كان هذا الأمر ثابتاً في الحوزات، فلا تستغرب من عزوف الطلاب عن القرآن وعلومه، ثم يتدرج به الأمر حتى يصبح فيما بعد آية أو مرجعاً شيعياً أعلى، وهو لا يحسن قراءة الفاتحة، وإذا قرأها قرأها بلكنة فارسية؟!
لا أزال أذكر صلاة الجنازة التي عقدت على الهالك الخميني كيف كان الإمام لا يستطيع الجهر بالتكبير إلا بلكنة أعجمية واضحة؟!
فكيف يتأتى من هذا هداية الناس وتعليم سواد المتشيعة؟!!
ولهذا يقول الدكتور الجعفري عن سبب عزوف الطلاب والعلماء الشيعة عن القرآن وعلومه: (وكان ربما يعاب على بعض العلماء مثل هذا التوجه والتخصص الذي ينأى بطالب العلوم الدينية عن علم الأصول، ويقترب به من العلم بكتاب الله العزيز؛ ولا يعتبر هذا النوع من الطلاب من ذوي الثقل، والوزن العلمي المعتمد به في هذه الأوساط). أهـ.
ولقد سمع الناس عن هروب عدد من الطلاب الشيعة من الحوزات في قم وغيرها بسبب هجرهم للقرآن، فإن بعضهم يأتي ويظن أن الأمر سيقربه من الله وآل بيت نبيه، فإذا درس وواصل في سنوات الدراسة يكاد قلبه أن يطير من هجران القرآن؟! هرب أحد هؤلاء الطلاب من حوزة قم، وأعلن أنه: (لا يستطيع قراءة القرآن في قم)! ولا يلام مثل هذا الطالب قدر ما يلام مروجي الفكرة الشيعية المعاصرة الذين ينأون بمقرراتهم ومناهجهم عن كتاب الله الكريم!
بل إن آية الله خامنئي علق على هذا الوضع المزري في العالم الشيعي بقوله: (.. إذا ما أراد شخص كسب أي مقام علمي في الحوزة العلمية، كان عليه أن لا يفسر القرآن حتى لا يتهم بالجهل!!
حيث كان ينظر إلى العالم المفسر الذي يستفيد الناس من تفسيره على أنه جاهل ولا وزن له علمياً، لذا يضطر إلى ترك درسه...ألا تعتبرون ذلك فاجعة؟!)([6]). أهـ.
ويقول أيضاً: (قد ترد في الفقه بعض الآيات القرآنية ولكن لا تدرس ولا تبحث بشكل مستفيض كما يجري في الروايات)([7]) أهـ.
أقول: ولهذا الأمر، حاول الخامنئي أن يقوم بمحاولة رائدة في عالم الشيعة المعاصرين، فقام بترجمة كتاب "في ظلال القرآن" لسيد قطب، وستؤول المحاولة بالفشل، لأن المسألة ليست متوقفة على الترجمة للقرآن وكتب التفسير ومعاني الدعوة للإسلام المبثوثة في القرآن الكريم وكتب التفسير، فإن هذا ليس مما يتعلم بالترجمة بل لابد من فهمها وتعملها والعمل بها، والدعوة إليها، وصناعة التشيع المعاصرة تأبى ذلك، كما كان حالها في القديم، وهي تثبت فشلها يوماً بعد يوم وعصراً بعد عصر في تعاملها مع القرآن الكريم، فالداء كامن في أصل المذهب الشيعي، لما أسلفناه من أسباب تحول بينهم وبين القرآن الكريم.
يقول مرتضى مطهري: (... عجباً!! إنَّ الجيل القديم نفسه قد هجر القرآن وتركه، ثم يعتب على الجيل الجديد لعدم معرفته بالقرآن؟!
إننا نحن الذين هجرنا القرآن، وننتظر من الجيل الجديد أن يلتصق به، ولسوف أثبت لكم كيف أن القرآن مهجور بيننا؟!
إذا كان شخص ما عليماً بالقرآن، أي إذا كان قد تدبر في القرآن كثيراً، ودرس التفسير درسا عميقاً، فكم تراه يكون محترماً بيننا؟ لا شيء.
أما إذا كان هذا الشخص قد قرأ "كفاية" الملا كاظم الخراساني، فإنه يكون محترماً وذا شخصية مرموقة. وهكذا ترون أن القرآن مهجور بيننا.
وإن إعراضنا عن هذا القرآن هو السبب في ما نحن فيه من بلاء وتعاسة، إننا أيضاً من الذين تشملهم شكوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه: (( يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ))[الفرقان:30].
قبل شهر تشرف أحد رجالنا الفضلاء بزيارة العتبات المقدسة، وعند رجوعه قال: (إنه تشرف بزيارة آية الخوئي حفظه الله، وسأله: لماذا تركت درس التفسير الذي كنت تدرسه في السابق؟! فأجاب: إن هناك موانع ومشكلات في تدريس التفسير! يقول: فقلت له: إن العلامة الطباطبائي مستمر في دروسه التفسيرية في قم!!
فقال (الخوئي): إن الطباطبائي يضحي بنفسه!! أي: إن الطباطبائي قد ضحى بشخصيته الاجتماعية. وقد صحَّ ذلك!!
إنه لعجيب أن يقضى امرؤ عمره في أهم جانب ديني، كتفسير القرآن ثم يكون عرضة للكثير من المصاعب والمشاكل: في رزقه، في حياته، في شخصيته، في احترامه، وفي كل شيء آخر. لكنه لو صرف عمره في تأليف كتاب مثل "الكفاية" لنال كل شيء، تكون النتيجة أن هناك آلافا من الذين يعرفون الكفاية معرفة مضاعفة، أي أنهم يعرفون الكفاية والرد عليه، ورد الرد عليه، والرد على الرد عليه، ولكن لا نجد شخصين اثنين يعرفان القرآن معرفة صحيحة، عندما تسأل أحدا عن تفسير آية قرآنية، يقول لك: يجب الرجوع إلى التفاسير)([8]) أهـ.
ولهذا لن يتعجب أحد إذا وجد تفاعل الشيعة مع حوادث إهانة القرآن الكريم والتعدي عليه ضعيفة أو مخجلة، لا تتوافق مع قوة دعايتهم في الباب، وذلك لأن القرآن قد اتخذ مهجوراً بينهم؟!
يقول محمد جواد مغنية الشيعي اللبناني: "وقد حرفت إسرائيل بعض الآيات مثل: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ))[آل عمران:85] فأصبحت: "ومن يبتغي غير الإسلام دينا يقبل منه"!!
وقد اهتز الأزهر لهذا النبأ، ووقف موقفاً حازماً ومشرفاً، فأرسل الوفود إلى الأقطار الآسيوية والأفريقية، وجمع النسخ المحرفة وأحرقها. ثم طبع المجلس الإسلامي الأعلى في القاهرة أكثر من أربعة ملايين نسخة من المصحف ... ووزعها بالمجان!! " أهـ.
وليس هذا محل العجب، فإن أهل السنة أهل القرآن وخاصته، ولكن العجب مما يأتي .. يقول مغنية الشيعي مواصلاً كلامه: ".. أما النجف، وكربلاء، وقم، وخراسان، فلم تبدر من أحدهما أية بادرة، حتى كأن شيء لم يكن، أو كأن الأمر لا يعنيها ... وصح فيهم قول القائل:
فإن كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم" أهـ.قالصلى الله عليه وسلم:{ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله تعالى يتلون كتاب اللهويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهمالله فيمن عنده}.
اللهم فارزقنا حبك، وحب كتابك، والإيمان به، والعمل به، وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وأدخلنا به الجنات، وارفعنا به الدرجات، ونجنا به من النار، واجعله شفيعاً لنا يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ..
([1]) تفسير الصافي (1/24).
([2]) ثوابت ومتغيرات الحوزة العلمية، الدكتور جعفر الباقري (ص:109 ).
([3]) نفس المصدر، (ص:110).
([4]) نفس المصدر (ص:111).
([5]) نفس المصدر (ص:112).
([6]) نفس المصدر (ص:112).
([7]) نفس المصدر (ص:110).
([8]) إحياء الفكر الديني (52).
المفضلات