بسم الله الرحمن الرحيم ........
الإسلام وصراع الحضارات .. الاستخلاف والأمانة ...
إذا بحثنا عن الأصل القديم الأول للمشروع الحضاري في الإسلام ، فإننا نعجز تماماً ، عن قطع الصلة ، بين السياسة والفقه ، بل وحتى بين السياسة والوحي ، فأول ما يصادف المرء هو القرآن الكريم ، وتأتي الآيتان (30) من سورة البقرة و(72) من سورة الأحزاب ، كإعلان مباشر واضح ، لما نسميه اليوم بالمسألة السياسية ، وتضع الآيتان تبارك قائلهما ، القضية السياسية في منزلتها الإسلامية الأصلية ، أي تحدد ببيان القرآن ، وإعجازه ، التعريف الإسلامي:
(1) لماهية الإنسان فرداً ومجتمعاً.
(2) لرسالته التي اؤتمن عليها.
ونورد فيما يلي الآيتين ، اللتين نعتبرهما الينبوعين الأولين ، لكل ماورد بعدهما وحولهما من آيات ، تشرح ، وتوضح المقصد الإلهي ، لرسم صورة المجتمع الإسلامي كما يريده الله سبحانه: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة : 30). (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ) (الأحزاب:72).
أي تعريف أبلغ ، وأي كلام أعمق يمكن أن يضع الإنسان في منزلته التي أنزله الله إياها بهاتين الآيتين ؟! فسورة البقرة ، حددت في مطلع القرآن الكريم ، معنى الاستخلاف في الأرض ، ومنها نشأ مفهوم الخلافة : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) . وعندما رد الملائكة بالتعبير عن الاستغراب في شكل سؤال واستفهام : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) ، جاء جواب المولى عز وجل مزيلاً لكل استغراب ، معلناً إرادته العليا ، فارضاً حكمته السامية ، بقوله: (قال إني أعلم ما لا تعلمون ) .
وبهذا الجزم الإلهي دخلت قضية الاستخلاف حوزة الغيب ، أي تجاوزت منطقة الجدل الملائكي ، لتصبح أول ملف رباني يودعه الله في تلك الحوزة الغيبية التي يعلمها الله وحده ، ولا يعلمها خلقه ، ملائكة كانوا أم بشراً .
ونستخلص نحن :
أن استخلاف الإنسان في الأرض ، هو من إرادة الله وحده ، وأن خلافة الإنسان من الله ، قدره لا يحيد عنه .
فالمعنى الجليل لعبارة (الخليفة) ، تحدد وانضبط في تلك الآية الكريمة ، بشكل لا يقبل التحريف والزيغ ، وهو المعنى ، الذي لابد أن نرجع إليه - أي نتخذه مرجعاً - كلما أردنا الخوض في مسألة السياسة الإسلامية ، ونحن إذا ما تخلينا عن هذا الأصل في القرآن -أي معنى الخلافة- فلن نكون مسلمين ، بل ندخل بوعي منا ، أو بلا وعي ، فضاءات فكرية وسياسية ، وتاريخية لأمم أخرى غير مسلمة ، وفي مناطق نفوذ ثقافية غربية أساساً ، سيطرت لمدة قرنين تقريباً ، على عقولنا ، وأخضعت شعوبنا وصفوتها ، لعمل دؤوب وطويل وصبور ، جردها من أصولها المرجعية ، وأوهمها بأن صلاتها بجذورها انقطعت ، وأن عليها أن تبني على أسس غير أسسها ، وأن تنطلق من منطلقات غير منطلقاتها ، وذلك ما تم لهذه القوى الصليبية والصهيونية الغازية - أو كاد يتم - لولا يقظة الأمة من تلك الغفوة المشلة ، التي دامت قرنين ، وخاصة منذ أن وطأ الجيش الصليبي الفرنسي شواطيء مصر بقيادة (نابليون بونابرت) يوم الثاني من يوليو 1798م في الحملة الصليبية التاسعة ، إلى غاية السنوات الأخيرة من القرن العشرين.
إن مسألة الخلافة حسمت في هذه الآية: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) فهو إذن قرار إلهي حاسم لا يسع الإنسان - في الأرض - إلا أن يتدبره ويطوع الواقع على مقاسه ، لا أن يطوع تلك الخلافة على مقاس الواقع ، مثلما رأينا خلال قرون في الدول المسلمة .
وهكذا - وبتلك الطاعة الواجبة لله تعالى - تتحول الدول المسلمة إلى دول إسلامية ، أى تجتاز الحد الفاصل ، بين دول تجمع في كنفها مسلمين ، مثلما هي الحال اليوم ، إلى دول تؤسس على إرادة الله ، وتعاليم دينه القويم ، كما يود المسلمون أن تكون .
ومن الخلافة نبدأ ؛ لأن الله عز وجل بدأ بإقرارها في الآية المذكورة في أول سورة قرآنية بعد الفاتحة ، فاستخلاف الإنسان ، يعني تحميله جملة من الفضائل ، كالمسؤولية والحرية والإخلاص لله ، والتلاؤم مع نواميسه ، وسننه ، حتى تنشأ فكرة الخلافة ، لتغذية تلك الفضائل ، وإعلاء شأنها ، وإعلان الولاء لله وحده ، دون الأرباب المزيفين ، وإذا ما استعرضنا كل المفردات القرآنية المنبثقة عن الخلافة ، تأكدنا من خلال المعنى المعطى للعبارة ، أبعادها الأخلاقية والروحية والسياسية .
جاء في تفسير مفردات القرآن الكريم لسميح عاطف الدين ما يلي :
(خلف فلان فلاناً قام بالأمر عنه ، والخلافة النيابة عن الغير ، وجاءت في القرآن لتشريف المستخلف .. استخلف الله أولياءه في الأرض):
(هو الذي جعلكم خلائف في الأرض )(فاطر:39)
(ويستخلف ربي قوماً غيركم )( هود:57)
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض )(الأنعام:165)
والخلائف جمع خليفة ، أما خلفاء فجمع خليف:
(وجعلناهم خلائف )(يونس:73)
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح )( الأعراف:69)
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض )(الأعراف:74)
( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) (النمل:62)
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض )(النور:55) (إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء )(الأنعام:133)
(ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم )(النور:55)
(قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض )(الأعراف:129)
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )(ص:26)
ومن اليسير على المؤمن قاريء هذه الآيات النوارنية ، أن يستخلص الحكمة الإلهية المستوفاة من معنى الخلافة والاستخلاف .
ففي كل الآيات ترد العبارة المشتقة من الأصل (خ ل ف) مقترنة بالتمكين في الأرض ، أي بما نسميه اليوم ممارسة الحكم ، أو القيام بشؤون السلطة .
فبينما انقلب في عصرنا الراهن مفهوم الحكم ، إلى التسلط والاستبداد ، ظل ذلك الجوهر القرآني على معناه الأصلي ، أي ربط الخلافة بالحكمة ، وإقامة العدل ، بل وجعل سبحانه الاستخلاف وعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فهو إذن جزاء أوفى للمؤمنين ، الذين يعملون الصالحات ، كما أن الله سبحانه جعل نزع الاستخلاف من قوم شكلاً من أشكال الإنذار والعقاب .
فيتبين لنا ما وهبه القرآن للخلافة من ارتفاع بالإنسان ، والمجتمع ، إلى منزلة الحق والعدل ، والشعور بالمسؤولية ، وأداء الأمانة ، وقد اشترط سبحانه على نبيه داود قائلاً له : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق )(ص:26) ، فاقترن الاستخلاف ، لا بالحكم المطلق ، بل بالحكم الحق ، وبذلك تنتفي الخلافة تلقائياً إذا ما انتفى الحكم بالحق ، فهما صنوان متلازمان ، كما وطد سبحانه الصلة بين الخلافة ، وبين إجابة المضطر ، وكشف السوء ( آية 62 من سورة النمل ).
وهكذا تتجلى الخلافة ، كما أرادها الله في كتابه العزيز ، أنموذجاً فريداً من الحكم السياسي ، لم يأت في غير القرآن ، ولم يشهد له الناس في التاريخ مثيلاً لدى الأمم الأخرى ، فالحضارات الكبرى المتتالية ، كالفرعونية ، والإغريقية ، والفينيقية ، والكنعانية ، والرومانية ، كانت تقتسم العالم وتتصارع من أجل التوسع والبقاء ، لكنها لم تهتد إلى ما حدده القرآن الكريم ، وانفرد به دون الأديان ، وإلى ما شرعت في تجسيمه الحضارة الإسلامية في صدر الإسلام ، دون الحضارات الأخرى.
فهل يمكن أن نبوأ في الأرض - أي أن نستعيد دورنا الريادي في قيادة الحضارة من جديد - بدون الرجوع الجريء إلى الجوهر السياسي في الإسلام ألا وهو استخلاف الله لنا في الأرض بإرادته عز وجل ؟
وهل يمكن أن نتدبر شؤون الحكم في بلداننا وشعوبنا ، بدون أن نعيد الروح لمفهوم الاستخلاف ، فنقيم مؤسسات الدول الإسلامية ، على هذا الأصل الكريم الفريد ، وحسب الشروط والفضائل ، والقيم ، والمثل ، التي أودعها لله في الخلافة ، وخص بها أمته الإسلامية ، دون سواها؟
ونأتي بعد ذلك إلى الآية (72) من سورة الأحزاب التي رسمت الخطوط الكبرى للميثاق المعقود بين الخالق والمخلوق ، كأنما أراد الله سبحانه توضيح معنى الاستخلاف بإضافة مفهوم الأمانة عليه .. والأمانة هي كما نعلم -أساس كل ميثاق - أو عقد ، حسب تعبير فلاسفة السياسة في فرنسا القرن الثامن عشر (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال ).
توجد تلك الأمانة لدى مالكها الأول ، الذي هو الله سبحانه وتعالى ، وأراد أن يعرضها لا أن يفرضها ، فلو أراد فرضها دون انتظار استجابة لفرضها ، لكن الله عرضها ، أي تقدم بها برحمته الإلهية ، وانتظر موقفاً من السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان -وهو مخير في ذلك القرار الحاسم- لكن المولى عز وجل ، عقب على القبول الإنساني للأمانة بأن الإنسان كان ظلوماً جهولاً.
إن الصفتين اللتين نعت بهما الله سبحانه الإنسان (الظلم والجهل) هما أصل كل نقص بشري ، وسبب مباشر لأغلب مصائبه في الأرض ، ويقتضي حمل الأمانة المعروضة عليه ، أن يسعى لإصلاح هاتين النقيصتين ، بالعمل السياسي ضمن مجتمع مسلم ، فلاحظوا معي ، أن اختيار الله سبحانه للظلم والجهل ، هو الإقرار بالنقائص السياسية، أو الاجتماعية أساساً ، دون النقائص الفردية الذاتية الخاصة بكل إنسان ، مثل الكفر ، والنفاق ، والأنانية ، واللؤم.
أراد الله أن يعدد نقيصتين ، لا يتسم بهما فرد واحد ، وإنما مجتمع بأسره ، فالظلم نقيض العدل ، وهما مفهومان سياسيان ، أي لن يستقيم معنى الظلم ، وكذلك معنى العدل ، إلا ضمن مجتمع سياسي ، والمعنى نفسه لعبارة الجهل نقيض العلم ، فهما أيضاً مفهومان سياسيان ، حيث لا يظلم ، ولا يجهل إنسان ، وهو بمفرده معزول عن الآخرين من أبناء جلدته ، وإنما يصبح معنى الظلم -نقيضه العدل- ومعنى الجهل -أو نقيضه العلم- في مجتمع متكون من خلاياه العائلية ، والقبلية ، والمهنية.
وتأتي آيات عدة لتعطينا مفاتيح ما انغلق من أسرار الأمانة ، كما عرّفها الله تبارك وتعالى:
(فإن أمِنَ بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته )(البقرة:283)
(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )(النساء:58)
(لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم )(الأنفال:27)
(والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )(المؤمنون:8)
وكذلك يتضح البعد الأخلاقي والإيماني ، لعبارة الأمانة ، فيربط سبحانه بينهما وبين رعاية العهد ، ويعلمنا بأنها موصولة بعلاقة الإنسان بالله والرسول ، وأن عدم خيانة الأمانة ، بمثابة عدم خيانة الله والرسول ، وتكمل سورة النساء هذه الأبعاد الفاضلة بأمر الله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ).
وينطبق هذا المفهوم القرآني على الأمانة التي ذكرها سبحانه في الآية (72) من سورة الأحزاب ، والتي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، ويضيف سبحانه مبيناً ، أنه كان ظلوماً جهولاً ، في قبوله للأمانة ، والعزم على حملها.
ألسنا من خلال الآيتين (آية الخلافة وآية الأمانة) نعبر عن صميم قضية الحكم في الإسلام ، فتبدو المسألة السياسية واضحة يسيرة طيعة ، صفت وتجلت أمام أعيننا في جوهرها الأول المكنون ، أي في القرآن الكريم ، كتاب الله المرسل للمسلمين ، وجاءت السنة النبوية ، وتبعها السلوك الأمثل للخلفاء الراشدين ، ثم التحق الفقهاء والعلماء ورثة الأنبياء ، لتأكيد هذا التعريف القرآني المؤسس للفكر السياسي الإسلامي ، والقائم كما بينا على الثنائية الروحية والأخلاقية والتعاقدية : الاستخلاف ، والأمانة؟!
ونخلص إلى القول :
بأن مشروعنا الحضاري الإسلامي ، هو الفريد المتميز ، بانطلاقه من هاتين القيمتين الخالدتين ، الاستخلاف والأمانة ، وهو الوحيد الذي شكل منظومته السياسية ، وأرسى قواعده الاجتماعية والثقافية ، على هذين المثلين الأعليين ، ثم إنه كما أسلفنا ، مشروع تحقق :
أي أننا لا يمكن أن نشك في إمكانية تنزيله على واقعنا الراهن ، كما نزله الرسول الأمين صلى الله عليه و سلم وخلفاؤه من بعده على واقعهم ، وكما تحقق منه الجزء الأوفر ، أثناء الدول الإسلامية عبر التاريخ ، بفضل اجتماع الكلمة ، والتمكن من أسباب القوة والمنعة .. وتعرض المسلمون كذلك لعهود من الضعف والانحلال والتشرذم ، وكان سببها الرئيس التفريط في القيمتين المذكورتين - الاستخلاف والأمانة - بل بتعبير أدق :
كان سبب تلك العهود المظلمة ، تحول الاستخلاف والأمانة من منزلة الحكم ، إلى منزلة المعارضة ، وانتقالها من خانة السلطة إلى خانة الفكر المقموع.
لكن الاستخلاف والأمانة كقيمتين متلازمتين ظلتا موجودتين في التراث السياسي والثقافي الإسلامي " أحياناً في موقع المسؤولية وقيادة الدولة ، وبالتحام الراعي مع الرعية ، وأحياناً في موقع الريادة الفكرية ، حين تضل السبل ، بأولي الأمر ، وتشتبه المسالك"
المفضلات