بسم الله الرحمن الرحيم .
و الصلاة و السلام على سيدنا محمد أشرف الخلق و المرسلين , و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين .
لأول مرة , أجد ردا جميلا من الأخ الفاروق .
نحن لا ننكر هذه الأحاديث الشريفة في نزول المسيح ابن مريم .لكننا نفهمها في ضوء كتاب الله القرآن الحكيم .
و في إطار سنن الله تعالى التي لا تبديل لها و لا تحويلا .و هذا في ضوء اللغة العربية أيضا .إذ القرآن عربي مبين .
يقول الله تعالى : {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (15) سورة الأحقاف.
من سنن الله تعالى في ملكوته ان الإنسان كائن حي يولد صغيرا بعد الحمل .و يترعرع و ينمو . و يبلغ اشده في سن الأربعين .و قد يمد الله في عمره .عمرا معقولا بين عموم البشر .و يبدأ كيانه الجسماني في التدرج في الضعف , حتى يدركه الموت .و هي حقيقة لا مراء فيها .
فانظر قول الحق جل و علا : {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (68) سورة يــس.
و قوله تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (54) سورة الروم.
هذه سنة الله في الإنسان . و المسيح ابن مريم عليه السلام .بشر , إنسان .كسائر الناس البشر.إلا أنه نبي و رسول لبني إسرائيل فقط .
و عليه يجري عليه ما يجري على البشر .و هو ليس بأفضل و لا أكرم على الله من محمد رسول الله .
نستنتج إذن أنه :
-يموت مثل كل البشر .و عن عمر معقول كسائر البشر .
-لو أنه ما يزال على قيد الحياة لهذه المئات من السنين .لكان قد نكس في الخلق إلى درجة كبيرة جدا جدا . فالبشر بمجرد ما يزيد عمره على المئة أو ربما أقل و ترى أن أثر السنين قد بدت عليه . و قد نكس في الخلق .
و لا يصح القول بحياته حتى اليوم ما دمنا نرى أنه إنسان .
فالإنسان مهما كان لا يخرج عن سنن الله تعالى في خلقه .
-حياة البشر لا تكون إلا في الأرض , و هذا ما نجده في قول الله تعالى : {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} (25) سورة الأعراف.
-الموتى لا يرجعون إلى الدنيا , بدليل قول الله تعالى : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (95) سورة الأنبياء.
و بدليل قوله تعالى : {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (100) سورة المؤمنون.
فلا يصح الزعم بقول حياة بشر في السماء إلا إذا كانت له طبيعة غير بشرية . و المسيح الناصري بشر كسائر البشر .
الآيات القرآنية التي تناولت موت المسيح ابن مريم كثيرة جدا .بل لم يؤكد القرآن موت أحد أكثر مما أكد موت المسيح . و منها قول الله تعالى : {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (55) سورة آل عمران.
متوفيك تعني مميتك .
{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (117) سورة المائدة.
توفيتني , تعني أمتني موتا طبيعيا .
لذلك ترى أن المسيح ابن مريم عليه السلام , في جوابه لرب العالمين يوم القيامة , يقول أنه لا يعلم ما أحدث قومه من بعده .(( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ)).
فلو فرضنا أنه سيعود آخر الزمان , لكان بالضرورة يعلم ما أحدثه قومه من بعده .فهو الذي يجبرهم على الإسلام , كما جاء في شرحك للموضوع .
و للعلم أيضا أن نفس الكلمات وردت في حديث عن رسول الله الصادق الأمين . في معنى الحديث : (( يؤتى بأناس من أمتي ذات اليمين و ذات الشمال .فأقول : أصيحابي .فيقال : إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك .إنهم لا يزالون مرتدين مذ فارقتهم .فأقول ما قاله العبد الصالح .
و كنت شهيدا عليهم مادمت فيهم......)).
يقول الله تعالى : {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (20) سورة النحل {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (21) سورة النحل.
و الآيات كثيرة تثبت موت المسيح عليه السلام .
بالنسبة للرفع :
تعني كلمة و رافعك إلي , رافعك في الدرجة و المنقبة .و ليس في المكان و الجهة .
و من قبيلها , قول الله تعالى في نبيه إدريس عليه السلام : {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} (57) سورة مريم.
و من قبيلها أيضا : {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (83) سورة الأنعام.
و متى ثبت أن المسيح الناصري قد مات .فلا يكون لمعنى نزوله سوى مجيئ شبيه له .مثل قولك : جاء حاتم الطائي .فتفهم أنه جاء شبيه له في الكرم .
معنى النزول :
في الحديث الذي سقته في ردك .ترى جيدا : ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَ)) . ترى جيدا أن كلمة السماء لم ترد مع كلمة ينزل مطلقا .
و كلمة نزل , في اللغة العربية لا تعني دائما النزول من علو أو من السماء .
كقولي : نزلت عندك ضيفا .فهل يفهم العاقل أنني هبطت من السماء ؟.
فالنزول تعني مجيئ .
نبي الله عيسى , نبي و رسول لبني إسرائيل فقط .بصريح القرآن .و على فرض عودته سيصبح رسولا للبشر كافة .و بالتالي سيدب الشك في كتاب الله , الذي يقرر أن المسيح الناصري رسولا لبني إسرائيل فقط .
لذلك لو أراد الله تعالى إدخار رسول لمهمة كهذه لاختار النبي المبعوث رحمة للعالمين .و ليس نبيا خاص النبوة .
يقول الله تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (55) سورة النــور.
هذا الوعد كتوب من الله لأمة المصطفى .و ليس لبني إسرائيل .لذلك فمسيح الأمة الإسلامية هو واحد من أتباع المصطفى و ليس نبيا من بني إسرائيل . فانظر (( منكم )) .
كسر الصليب : تعني تبيان بطلان عقيدة الصليب النصرانية الكافرة .و ليس كسر الصليب على الحقيقة كما جاء في ردك .
لأن كسر شكل الصليب لا يؤثر على عقيدة النصراني , حتى و لو كسرت أمامه آلاف أشكال الصلبان .
لكنك لو أفلحت في إقناعه بموت معبوده .لكنت قد كسرت الصليب في قلبه .و لم يعد يأبه به أبدا .
قولك أن المسيح لا يقبل من الكفار غير الإسلام , و لن يترك لهم إلا قبول الإسلام أو القتل .قول مردود .إذ لم يبعث الله تعالى رسولا و لا نبيا لقتل البشر لمجرد كفرهم .
و أكرمهم عند الله تعالى هو نبي الرحمة محمد-ص-. و مع ذلك يقول له : {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (22) سورة الغاشية.
و يقول أيضا : {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس.
و يقول أيضا : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة.
فالمسيح الذي ينزل آخر الزمان , هو مسيح الحجة و البرهان و ليس السيف و السنان .
و مهمته تشبه المسيح الناصري بين اليهود .حيث جاءهم بعد ضياع اليهود و بعدهم عن حقيقة الإيمان مع أن التوراة بين يديهم .فهو جاء ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه .
و نفس الشيئ بالنسبة لمسيح الأمة الإسلامية .فهو يأتي حكما عدلا بين المسلمين و غيرهم فيما اختلفوا فيه من عقائد .
أما الظلم المادي , فقد جعل الله له سننا أخرى لرفعه و هي دفع الناس بعضهم بعضا .
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
و أذكر السيد الفاروق و أن ردك هذا جعلني أحترمك لخلوه من الإساءات .و أشكرك و أرجو أن نلتزم جميعا بأدب الحوار .
و الخلاف بيننا ليس نهاية العالم . فلك أن تعتقد ما تشاء , كما لي أنا أيضا أن أرى ما أرى .
و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته .
المفضلات